في معرض “أرض الآباء”، الجناح العراقي في بينالي البندقية، يرصد الفنان سيروان باران طبيعة الحرب وَالأبوية السلطوية وَالعسكرية، على ضوءِ تجاربه كَجندي في الجيش العراقي في التسعينيات. بعد عقود من الحرب المتواصلة التي كَما يقول باران، أثّرت أيضًا في طبيعة العراق وَبيئته.

“كانت بغداد يومًا ما مدينةً خضراء”، يستذكر باران: “لقد اندثرت اليوم معظم أشجار النخيل وَالمساحات الخضراء. في البصرة، خلال الحرب العراقية الإيرانيّة، اجتثّ صدام مئات الآلاف من الأشجار للتمكّن من مراقبة الإيرانيين بِشكل أفضل على الجانب الآخر. ”

هذا الشهر، وَبالتوازي مع نشاط جناح العراق في بينالي البندقية، نلقي الضوء على تأثير الحرب في الطبيعة من خلال عمل فنّانَيْن اثنَيْن. الأول هوَ المخرج عباس عبد الرزاق الذي قام بتوثيق الاعتداء على القرى الكردية من قبل الجيش العراقي خلال (حملة الأنفال) أواخر الثمانينيات. وَثانيهِما المصوِّر الياباني كيكوجي كاوادا الذي استكشف بعدستِهِ المناظرَ الطبيعية التي دمّرها القصف النووي لِهيروشيما أثناء الحرب العالمية الثانية.

لقد كَشفَ كِلا الفنانَّيْن الأثر البيئي لِلحرب على الطبيعة. ومع ذلك، أضحت صُوَرُهما أيضًا عبارة عن شواهد طبيعية توثّق للذاكرة وَأذى الصدمة وَالحِداد.

تلقي هذه الاستجابات الفنية للحرب الضوء على القضايا البيئية، بينما تكشف أيضًا عن روابطَ بشرية أعمق بالطبيعة وَالمناظر الطبيعية.

**
في العام 1988، سافر المخرج عباس عبد الرزاق إلى القرى الكردية المتوارية خلف الجبال على الحدود العراقية مع إيران. لقد تمَّ تصوير قرى سارجالو وَشوشناواتي وَشاربظير قبَيل أيام من تدميرها بِغارات جويّة وَهجمات بالغازات السّامة شنّها الجيش العراقي عليها.

عباس عبد الرزاق، “مع ذلك”، 1988. بإذن من الفنان.

عباس عبد الرزاق، “مع ذلك”، 1988. بإذن من الفنان.

عباس عبد الرزاق، “مع ذلك”، 1988. بإذن من الفنان.

خلال الثمانينيات، انضم عبد الرزاق كَمخرج سينمائي إلى التمرُّد الكردي ضدَّ صدّام حسين. وَوثّق للاعتداء المُمنهَج الذي شنّه الجيش العراقي على المدن والقرى الكردية وَقتَها تحت لواء (حملة الأنفال)، وَالتي كان هدفها القضاء على الحياة والثقافة الكردية القائمة آنذاك منذ قرون في جبال شمال العراق. وِفقًا لـِ “هيومن رايتس ووتش”، قُتل أكثر من 100000 مدنيّ وَدُمِّرت 4000 قرية (أي ما يعادل 90٪ من القرى في المناطق المستهدفة).
أظهرَ عبد الرزاق سكونَ القرى المهجورة، حيثُ جثثُ الطيور تطفو على المنازل الخالية وَالأسطح وَالمعدات الزراعية المُهمَلة. جمرُ النار الأخيرة المَغروز في التربة وفي جذور الأشجار المحترقة. في مقطع آخر، تخرج النساء والأطفال من الملاجئ تحت الأرض، والتي بنَوها لِحماية أنفسِهم من الغارات الجوية بعد أن دمّر القصف منازلَهم الطينيّة وَالحجريّة، يملؤونَ المياهَ بشكل جماعيّ لإخماد الحريق المتبقّي. فَيتصاعدُ الدخان من الآكام، حيث غارةٌ أخرى سقطت.

عباس عبد الرزاق، “مع ذلك”، 1988. بإذن من الفنان.

عباس عبد الرزاق، “مع ذلك”، 1988. بإذن من الفنان.

على الرغم من تدمير هذه القرى، إلا أنّ المشاهدَ تكوّن تصوّراتٍ حول الحياة الرعوية التي كشف عبد الرزاق من خلالها عن المجتمعات الريفية المرتبطة ارتباطًا وَثيقًا بالجبال وَبالحياة البرية المحيطة بها. وقد ساعد هذا في التأكيد على ما وُصف على نطاق واسع بـِ “الإبادة الجماعية” للطبيعة على يد (حملة الأنفال)، التي لم تستهدف المَدنيّين فحسب، بل توخّت تدميرَ نظام حياة متكامل لِشعبٍ بأسرِه.

عباس عبد الرزاق، “مع ذلك”، 1988. بإذن من الفنان.

لقد قضى عبد الرزاق آلاف الساعات في توثيق لقطات حولَ (حملة الأنفال). في العام 2010، استُخدمت لقطاته وَرواية شهود العيان للهجوم الكيميائي الواقع في العام 1988 على مدينة حلبجة كَدليل في محاكمة علي حسن مجيد، قائد الجيش العراقي الذي أمر بالهجوم.

تُشرف أسرة عبد الرزاق في السليمانية حاليًا على ترقيم أرشيفه. كما تنشر “رؤيا ” صُوَرًا منهُ هنا للمرة الأولى وَبإذن الفنان.

***

يتّصل الصّمتُ الرّابض في مشاهد قرية عبد الرزاق بِمشروع المصوِّر الياباني كيكوجي كاوادا الذي حمل عنوان (الخارطة)، وهو كتاب مصوَّر مَطويّ يستكشف الصدمات وَالتجدد في اليابان بعد الحرب. تسببت القنبلتان الذريتان اللتان أسقطتهما الولايات المتحدة في العام 1945 على مدينتَي هيروشيما وَناغازاكي اليابانيتَين بِدمارٍ طويل الأمد. قُتل أكثر من 220000 شخص في الانفجارات، وظل العديد منهم يحتضرون على مدى أشهر بسبب تداعيات الإشعاع النّووي وَإصابات أُخرى.

خلال العقود التي تَلت هذه النّكبة، تطوّرت الثقافة اليابانية بشكل كبير مع تعافي اقتصاد البلاد وَمعالجة أذى الصدمة. وقد حاول مشروع (الخارطة) رصدَ هذه التغييرات عن طريق توثيق مشاهد الأنقاض من الحرب العالمية الثانية وَتأثير القنبلة الذرية وَالحضور الثقافي والعسكري الأمريكي الطّاغي.

كيكوجي كاوادا ، قبة النصب التذكاري للقنبلة A ، السقف ، وصمة عار وَسقوط، من سلسلة (الخارطة)، 1960-1965.

Hinomaru، العلم الوطني الياباني، من سلسلة (الخارطة)، 1965.

زار كاوادا مبنًى إداريًا مهجورًا في هيروشيما بات فيما بعد يُعرف باسم قبة القنبلة الذرية، متتبّعًا بِعدسته “وَصمةَ عارٍ” سوداء على السقف ظهرت بعد الهجوم. كما وثّق لإعادة تنامي الطبيعة المحيطة، والتي تغيّرت بعد الإشعاع. في إحدى الصور، على سبيل المثال، وسط المباني الخرسانية، ينصبّ الضوء على بقعة من العشب النديّ، كانت بعد القصف قد أخذت تنمو بسرعة قياسية.

Lucky Strike، 1962، من سلسلة (الخارطة) ، © كيكوجي كاوادا، بإذن من الفنان وَمن معرض الصور الدولي، طوكيو

كذلك يستكشف كاوادا الانتعاش في البيئة الحضرية في اليابان. أدى الدعم الأمريكي إلى طفرة اقتصادية غير مسبوقة في اليابان في العقود التالية للحرب. حيث بقيت القوات الأمريكية في اليابان خلال فترة الانتعاش هذه. يعكس مشروع (الخارطة) كلًّا من الإحياء والإمبريالية ضمن سلسلة من صور الدعاية وَأغراض التقطت من شوارع طوكيو، وَمن ضمنها صورة لِعلبة سجائر Lucky Strike وَزجاجات كوكاكولا مرميّة.

تستعيد صُوَر الجمادات الخالية من الناس سكونَ وَصمت المُدنِ التي أهلَكَتها القنبلة الذرية. يسلّط مشروع (الخارطة) الضوء على تشوهات بيئة هيروشيما وَالتأثير المستدام للحرب على المشهد المحلي. وَتخدم الطبيعة حكاية الحياة المستمرة وَلكن من قلب الصدمة.

***

فيما يتعلق بالبشر، غالبًا ما تمتاز الطبيعة بالمساحة الغامرة وَالجمود تجاه المعاناة الإنسانية. وَمن خلال تصوير تأثير الحرب في الطبيعة، صوّرَ كلُّ من عبد الرزاق وَكاوادا مشاهدَ طبيعية متنوّعة عن الحِداد وَالذاكرة الطبيعية.

عباس عبد الرزاق، “مع ذلك”، 1988. بإذن من الفنان.

تغرقُ صور عبد الرزاق للقرى المهجورة والقرى في سكون الطبيعة المحيطة. حيث الجبال التي لجأ إليها الأكراد لم تكُن فاعلةً في احتواء مِحنتهم. وَقد ظهرت عدسة المخرج كَشاهد وحيد على الحملات العسكرية الهادفة إلى طمس شعب كاملٍ بثقافته وَتاريخه. وَكانت الصور بمثابة شهادة وَمحاولة للحفاظ على آثار ما يمكن للنسيان أن يَمحوه.

في هذه الأثناء، كشفت صور كاوادا عن الدّمار الشامل الذي خلّفته القنبلة الذرية، ومع أنّ الدّمار لم يعُد مرئيًا، غيرَ أنّه جزء لا يتجزأ من المشهد في تحوّلِه وَتجدّده. إنها الطبيعة نفسها التي طَغت عليها وَصمة عار وَسمَتْها قنبلةٌ من صنعِ الإنسان.

وَأخيرا، فإن الدمار الذي لحق بالمناطق الطبيعية في العراق مستمر حتى يومنا هذا بسبب القوى الداخلية وَالخارجية. فقد أدّت السدود التي بَنتها الدول المجاورة عند مصادر نهرَي دجلة والفرات إلى خفض مستويات تدفق المياه العذبة إلى البلاد، في حين أن تبنّي سياساتٍ صديقةٍ للبيئة أو زيادة الوَعي البيئي لم يشكّل أولويةً بالنسبة لِأيّة حكومة عراقية حديثة.