بدأ كل شيء في مع كتاب “المتحف المتخيل” لـ”أندريه مالرو”، حيث وقع نظر المصورة الفوتوغرافية “جورجيا فيوريو” على صورة “قناع الوركاء” للمرة الأولى. يرجع الرأس، الذي اكتشفه “المعهد الأثري الألماني” سنة 1939 في مدينة “أوروك” (الوركاء) جنوب العراق إلى سنة 3100 قبل الميلاد.

كان أكثر ما أثار دهشة فيوريو هو الحداثة البادية على ذلك الرأس، “وكأنه عمل لـ(كونستانتين) برانكوزي”. عزمت فيوريو على فهم السر؛ كيف لشيء بهذا القدم أن يبدو بهذه الحداثة؟ “ظل العمل يلاحقني لأعوام ثلاثة قبل أن أتمكن من رؤيته رأي العين في المتحف ببغداد”. وتعد تلك القطعة الأثرية، المعروفة أيضا باسم “سيدة الوركاء”، أقدم تصوير معروف للوجه البشري، والأرجح أنها كانت تجسيدا للإلهة إنانا، ربة الحب والحرب والجمال والجنس والخصوبة السومرية. عندما نجحت فيوريو أخيرا في زيارة “السيدة” في المتحف العراقي ببغداد، التقطت لها آلاف الصور، على مدار عامين كاملين. ثم جاء هذا المعرض، الذي تسميه “تقديمًا”، نتيجة لهذا الجهد، وأيضا لتعاونها مع قسم الآثار بجامعة “كافوسكاري” في فينيسيا، وجامعة “سانتانا” في بيزا.

“سيدة الوركاء” في المتحف العراقي، بغداد. تصوير: أيمن العامري/ مؤسسة رؤيا.

تُوج هذا التحقيق بمشروع طموح متعدد الجوانب يمثل بحثا متفانيا في المعنى المعقد للنموذج الأصلي للإنسان، واستقصاء لما تسميه فيوريو الأبعاد الدلالية، أو آثار المعنى.

“‘السيدة’ هو رأس من بين عدة رؤوس نموذجية أصلية أعاينها، أثر باق من الأصل، وهو الأهم من بينها جميعا. الأصل هو شيء تدركه فيحدث بداخلك. ما الذي يجعل النماذج الأصلية للرؤوس ثابتة لا تتبدل؟ لأنها تبقى داخل المشاهد. هذا هو دور النموذج الأصلي، وهو يترك أثره بداخلك. إنه ينتج نفسه بداخلك. وهو، بالتعريف، يحمل طابع النمط المتكرر. إنه لا نهائي”.

يرتبط فهم فيروريو لـ”السيدة” بزمن ظهورها قبل 52 قرنا، في أوروك (الوركاء)، في تلك اللحظة من المرحلة الأولى من أول تدبير نظامي في العالم القديم- إرساء منهجية العمل التي تتحول إلى أنشطة فعلية تجعل الجماعة البشرية تدور حول مركز واحد. إنه الزمن الذي اختُرعت فيه العجلة، ونشأت فيه أول ثورة زراعية عظيمة، وظهرت فيه أول شفرات للغة والكتابة- الرموز المسمارية.

العمل المعروض في المتحف العراقي موزع على عدة أقسام. يضم 36 صورة ملتقطة بتقنية التصوير المساحي الضوئي photogrammetry، اختيرت من بين مجموعة أكبر تزيد عن 3500 صورة التقطتها فيوريو من زوايا الـ360 درجة. هكذا، تبني الصور في مجموعها السطح الكامل للقناع. كل صورة، ملتقطة من زاوية تختلف بضع درجات لا أكثر عن سابقتها، تُظهر رأسا مختلفة، نظرة مختلفة، وجسما مختلفا. ما من صورة ثابتة.

وإذ تستخدم فيوريو تلك الصور، فهي تقترح أداة خبروية experiential للاستبطان، رحلة إلى داخل ما هو غير منظور، حيث تنتقل الهيئة غير المنظورة لـ”السيدة” وتتجلى أمام إدراك المشاهد. تقول: “أستخدم الصور الفوتوغرافية لإظهار ما لا نراه، لا الجسم نفسه. لقد كان تناول غير المرئي مهمة مستحيلة. بالنسبة لي، لم تعد الأداة الفوتوغرافية في ذاتها هي النتيجة النهائية، بل مجرد ممر من المرئي إلى غير المرئي”.

علاوة على الصور المعروضة، المعنونة “أيقونة” Eikona، تظهر أعمال فيوريو في قسمين آخرين لتجعل التوسط بين المرئي وغير المرئي متواصلا. في مساحة منفصلة، حيث تُعرض “السيدة” فوق قاعدة حديثة من تصميم جامعة “كافوسكاري”، نرى صورا عديدة لـ”السيدة” في مواجهة المنحوتة، حيث لا يمكن رؤيتها في الكادر البصري نفسه، ما يجبر المشاهد على التأمل بعين عقله، متأرجحا بين الصورة والحقيقة. هذا العمل يحمل عنوان “النموذج المثال” Paradeigma.

جورجيا فيوريو، تفصيلة من “سيدة الوركاء وآثار المعاني” (2017)، عمل مركب في المتحف العراقي. تصوير: أيمن العامري/ مؤسسة رؤيا.

جورجيا فيوريو تقدم عملها للزوار في المتحف العراقي. تصوير: أيمن العامري/ مؤسسة رؤيا.

أما القسم الأخير، فيشتبك مع الرأس على نحو أكثر مادية، عبر رسوم تفصيلية تسترشد بأطروحة “بييرو ديلا فرانشيسكا” الرياضية الصارمة التي تتناول المنظور، وتحمل اسم “عن المنظور في التصوير” De Prospectiva Pingendi. وتقول فيوريو إنها أرادت لتلك الرسوم أن تتصدى للمستويات الثلاثة للحقيقة الخاصة بالمنحوتة نفسها: القياسات غير المرئية، الداخلية بالنسبة لأبعاد الجسم؛ القياسات العقلانية، التي تطرحها الامتدادات العمودية من خارج العمل الفني؛ وأخيرا المستوى المادي الخاص بخطوطه الكونتورية.

تصف فيوريو هذا المشروع بأنه بذرة أولية لرحلة طويلة شرعت فيها. بالإضافة إلى مشاركة العراقيين تراثهم، تريد فيوريو إن ترجع إلى وطنها لتقدم تلك الفكرة المتعلقة بقوة التراث والإمكانيات الكامنة فيه بوصفه أعظم بكثير من النفط، في مجتمع انفصل عن هويته الثقافية. تقول: “إذا استطاع الفنانون العمل على أشياء كهذه، سوف يتوفر لهم معين لا ينضب من الإلهام. إنه مورد هائل للإبداع، العلمي والفني على حد سواء”. غير أنها تستطرد أن دورها كفنانة في هذا المشروع يشبه دور المركبة، أن تنقل الحدس بطريقة واضحة مفهومة.

“سيدة الوركاء” في المتحف العراقي. تصوير: أيمن العامري/ مؤسسة رؤيا.

“أن تكون فنانا يعني أن تضفي المعنى على الأشياء التي لا نفهمها، لا أن تجيب. لماذا نرى الأشياء بأشكال مختلفة؟ الدور الوحيد للفنان هو إثارة الأسئلة أمام العالم. والطموح هو أن تمتلك الشجاعة لإثارة هذه الأسئلة”.

“سيدة الوركاء وآثار المعاني” يعرض في المتحف العراقي في بغداد بين 6 كانون الأول (ديسمبر) 2017 و6 آذار (مارس) 2018.