في مقابلة أجريت معه مؤخرًا، صرّح الفنان العراقي- الكردي سيروان باران حول معرضه الجديد “أرض الآباء” في جناح دولة العراق في بينالي البندقية بدورته الثامنة وَالخمسين: “أريد للرّائين أن يكونوا شهودًا على الجريمة أيضًا، لِيفهموا معنى عَيْش حياةٍ بأكملِها في صِراع”. من منظور “عين الطائر”، يصوّر العرض الذي يطرحه الفنان لوحة أكريليك ضخمة بعنوان “الوجبة الأخيرة” ((2019 للجنود الذين قتلوا أثناء تناولهم وجبتهم الأخيرة. يدين العمل الحروب المتواترة على العراق، والتي اشتعلت بِفتيل التمردات الكردية التي عايشها الفنان في صغره، وَاستمرت مع اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية، وَحروب الخليج والعنف الطائفي المستمر. وَمع الانتشار السريع لِصور الحرب في وسائل الإعلام. لقد أراد باران التعبير عن امتداد عُمر النزاع، وَكذلك عن وَحشيّته.
تظهرُ رؤية باران لِمفهوم “الشاهد” جليّةً منذ البداية. الشاهد هو بِحُكم تعريفه الشخص الذي يلاحِظُ وقوعَ حدثٍ ما وينطوي دورُه على فعلِ الرؤية. يمكن للشهود تقديم أدلة حاسمة على جريمةٍ ما، لكنهم يمكن أن يُلقوا ظلالًا من الشكوك أيضًا بشهادات لا يمكن الوثوق بها وَأحيانًا بالصمت. حقيقة أن باران نفسَهُ قاتَلَ كَجنديٍّ في الحروب التي شَهدَها وَصوّرَها تُعقد هذه الفكرة: هل هوَ مذنبٌ أيضًا في ارتكاب الجريمة. وَما الدَّوْر الذي يفترضُه الرّاؤون، كشهود على أعمالِه؟
هذه الآثار الضبابيّةُ حَول طبيعة الرؤية وَمسؤوليات المُشاهد، حاضرةٌ في الرُؤى وَالحسابات الحديثة والمُعاصرة حَول الحرب. إنّها تظهر مثلًا في سلسلة الرّسام الأسباني فرانثيسكو غويا (War (1810 – 1820 “كوارث الحرب”، وَهي عبارة عن وقائع منقوشة تُدين الغزوات النابليونية على أسبانيا وَتداعياتِها. كذلك في نقوش أوتو ديكس الشهيرة “الحرب” (1924)، التي تصوّر الرواية الشخصية للفنان الألماني كَجنديٍّ على الحرب العالمية الأولى. لقد دانَ كلٌّ من غويا وَديكس وباران فظائع الحرب من مواقعهم كَشهودَ عيانٍ، وَبالتالي نَسَفوا الأنواعَ التقليديّة من أعمال الحرب وَالتاريخ، تلكَ التي اعتادت أن تصوّر الانتصاراتِ وَالبراعةَ العسكريّة.
غالبًا ما توصف الحرب بِكَوْنها مشهدًا، ما يصنِّفُ الشاهدَ كَمتفرِّج. بالنسبة لِغويا وَديكس وَباران، فإن مشهد الحرب يركز على تصوير أعمالٍ وَحشية – لا سيّما فيما يتعلّق بِالجسد البشريّ. كما يجادل ريفا وولف، فإنّ غويا قد نظر إلى الرّعب من مكانةٍ متسامية: “لقد أكّد غويا على الدوافع البشرية المظلمة […] التي تقودنا إلى مشاهدة الأعمال الوحشية”. يستهدف العنف في نقوش غويا جسم الإنسان، مثل مصارعة المرأة ضد الجندي، أو الجثث المشوَّهة وَالمعلَّقة التي تظهر في حقيبة، صفيحةً تلو الأخرى. في هذه الأثناء، أظهر مؤرخو الفن مثل دونالد كوسبيت العلاقة بين نقوش “حرب” ديكس وَتصاويره للعالم الّليليّ في العاصمة برلين من الملاهي والدعارات والسيرك في أعقاب الحرب العالمية الأولى التي تمخضت عنها جمهورية فايمار ألمانيا.
يحاكي عمل باران الحروب المعاصرة التي أضحى فيها المشهد أداة تكتيكية. يَرتكز تكتيك “الصدمة والرعب” لِغزو العراق في العام 2003، على استخدام عروض مذهلة للقوة لتشويش تصوّرات العدو عن ساحة المعركة وشلّ إرادته في القتال. على هذا النحو، سيطرت الحملات أيضًا على القنوات التلفزيونية والإذاعية العراقية ببث منتظم حول نجاح الغزو. ربما انعكس صدى هذا التكتيك في رسومات باران وَعمل “الوجبة الأخيرة” الذي يصوّر ما حدث مباشرةً بعد القصف الكارثي. كذلك فإن تصوير باران للعنف مصوّب نحو جسد الإنسان. توضح تامارا الجلبي، المنسق المشارك لـ “أرض الوطن”: “هناك حسّ “غوياويّ” حقيقيّ حول شخوصه، إذ يرتبط الشعور بالكرب والعذاب بقوة بحركة الجسد البشريّ لديه. إن منظور عين الطائر الرسم يُبقي المشاهد متفرّجًا على مسافة من المشهد. حيث الجنود مُستلقون على الأرض في وضعية لولبية تُماثل وضعية الجنين غالبًا. لكن على الرغم من ثبات الشخوص الأموات، فإنّ دراسات باران تُظهر محاولاته لتقديم وضعيّة مصمّمة للمقاربة بين وَقع الكارثة وَفعل الرقص أو الأداء” (طالِع الرسومات 1، 2، 3).
وَبالمثل، كما توضح “كوارث” غويا، يمكن أن يكون الشهود من المارة أو المشاركين أو من الضحايا أنفسهم. في النقش الذي يحمل عنوان “لا يريدون ذلك”، يصوّر غويا اغتصاب امرأة قرويّةٍ على يد جندي. النّظر إلى الفظائع أَمْ بعيدًا عنها، يعدّ أمرًا أساسيًا للحركة بين الشخوص في هذا المشهد. المرأة وَالجندي وَحدهما لكنّ قرويًّا آخر يتسلّل خلفَه دون أن يلحظَه أحد. وبينما ينصبُّ سخطُ الجنديّ على المرأة القرويّة، فإنها تشيحُ بِوجهها بعيداً عن مُغتصِبِها، وَهي تُظِهِرُ عجزًا عن تحمُّل واقعةِ اغتصابها. تغرِز يدها في وجهه، وَكأنّها تمنعُه من النّظر أيضًا. في هذه الأثناء، يستلُّ القرويُّ رُمحَه ليُغمِدَهُ في ظهر الجندي. من خلال تدخّله في واقعة الاغتصاب، يضيفُ القرويّ جريمةً جديدة. في سلسلة من الأحداث الضمنية، تصبح المرأة الشاهد غيرَ الموثوق به على مَقتل الجندي.
لقد ميّز غويا بين مُتفرّجيه الموصوفين في سلسلة “الكوارث”، وَدَورِه الّلامرئيّ كَراوٍ عَليم. الّلوحةُ الأولى مُذيَّلةٌ بالتعليق الشهير (رأيتُ هذا). حيثُ تمنح هذه الآلة الخطابية مصداقية للأحداث التي قد تبدو مروِّعة للغاية لدرجة استحالة تصوّر كَونِها حقيقية. لكن من خلال تأكيد وجوده في هذه المشاهد، يثير غويا أيضًا تساؤلات حول الموقف الأخلاقي للفنان كَمُراقب. لماذا يكتفي بالمشاهدة؟ لمَ لَم يتدخل كما فعل القرويّ، لإنقاذ المرأة؟
على النقيض من ذلك، يصوِّر ديكس وَباران الحربَ من منظورهما الخاص كجنديَّيْن سابقَيْن. كما يجادل كوسبيت، إذ وَعلى الرغم من تصوير ديكس لسكّة الحرب ضد الأنظمة البرجوازية التي أوجَدتها، فإنها أيضًا مُشبعة بشعور الفنان الخاص بالذنب كمشارك وَناجٍ. “عاد ديكس من الحرب ليتحوّلَ إلى شاهدِها الغاضب، في حين أن العديدَ من رفاقه في السلاح لم يفعلوا، الأمر الذي تركه مع ترسبات من الشعور الّلاواعي بالذنب، مُقنّعٍ بشراسةٍ ذاتيّةٍ”. كذلك يكتب كوسبيت: “رسومات باران تدل على تجربته كَجنديّ. في مقابلة، قال الفنان إنه يستخدم صُورًا لِجسده، وهو مضطجعٌ في وضعيّاتٍ مُنحَنِية، كَموديل ذاتيّ لِرسوماته حَول جنودٍ مجهولين. إنّه يبثُّ رغبتَه في إشراك الجنود المتوفيّن في عمله على أنّهم “مؤلفون مُشاركون”، ربما كَتعبيرٍ عن شعورٍ بالذّنب كَناجٍ. هذه التقنيات الأدائية تُشدِّدُ على مشاركة الفنان نفسه في الحرب، كما لو كان يستعيدُ جسديًا ما شهِدَهُ بنفسه في ساحة المعركة”.
على النّقيض من ذلك، فإن المُشاهِد لِرسومات باران وَعمل “الوجبة الأخيرة” يتمركزُ بالفعل بعيدًا عن المشهد من خلال استخدام الفنان منظورَ عين الطائر. جثث الجنديِّ واضحة تمامًا وَمرئيّة بالكامل. هذا التأكيد على الرؤية وَالكشف الكامل يعكس القضايا المحيطة بواقعية وَدقة الصّوَر المعاصرة للحرب. وَهيَ معتمَدة في حرب المعلومات وَالثقافة التي تلعب الآن دوراً حاسماً في الحروب الحاليّة، بما فيها الحرب العراقية الإيرانية، وَتكتيكات الصّدمة وَالرّعب للغزو الأمريكي، وَالحرب على داعش في الآونة الأخيرة.
مع ذلك، فإن المنظورَ الجوّيّ يورّط المشاهدَ في المشهد أيضًا. إن اقتراح الهجوم جوًّا بواسطةِ طائرة حربيّة أو طائرة من دون طيار، يحوِّل المشاهد السلبي إلى مُشارِكٍ ضمنيٍّ في الجريمة. كذلك نشرُ التقارير الصحفية حَوْلَ الحربِ يؤدي إلى نزاعات معاصرة تزعزِعُ أمنَ المشاهدِ في منزلِه. على النّقيض من ذلك، فإنّ عملَ باران يعني أنه حتى المشاهدونَ السلبيُّونَ لهم دورٌ ضمنيٌّ في الصراع على شاشاتهم -إمّا كَمواطني قوّةٍ غازية، أو كمارّةٍ قادرينَ على تسجيلِ موقفٍ وَإحداث تغيير.