يصور تكليف سيروان باران الأحدث “آخر جنرال” المعروض في جناح العراق ببينالي البندقية، جثة جنرال عسكري تطفو على متن قارب، هذا التمثال هو أول ما يصطدم به الزوار عند دخولهم القاعة الأولى بالجناح. للوهلة الأولى، يبدو جسد الجنرال مسترخيًا، لكن رأسه منسحب للخلف كاشفًا عن محجري عينيه الفارغين وفمه الفارغ وعظام فكيه الظاهرة. تحتل القوارب والأنهار والإبحار مكانة مهمة في تاريخ العراق الثقافي. يظهر نهري دجلة والفرات بغزارة في قصص الحضارات القديمة والقصَص الإنجيلي، كما أنها ساهمت في نمو أهم مدن العراق الساحلية. لقرون طويلة، تأقلم المعدان بجنوب العراق على حياة محاطة بالماء من كل جانب. أمَّا على الخليج الفارسي، فيعتبر ميناء البصرة مركزًا تاريخيًا مهمًا وموطن سندباد البحار من “ألف ليلة وليلة”.
يستلهم “آخر جنرال” هذا التاريخ ليصف الحروب العراقية. يشير العمل إلى طقوس الدفن السومارية، حيث كانت جثة المتوفي تُوضع في البحر على متن قارب. تحمل القوارب المتوفي إلى الحياة الآخرة، ما يمثل تفاديًا للموت. يستخدم باران الفهم السوماري للخلود للتعبير عن تجربته الخاصة كجندي في الجيش العراقي. يعلٌّق باران: “غالبًا ما يتفادى جنرالات الجيش من ذوي الرتب العالية السجن، كما أنهم أقل عُرضة للموت من الجنود العاديين. تَخيلت جنرالًا يحاول الهرب على متن قارب نجاة، لكنه يغرق أثناء المحاولة”. لكن رحلة الجنرال في منحوتة باران لا تُشبه إبحارًا آمنًا إلى العالم الآخر كما اعتقد السومريون، بل هي عبور نحو الجحيم. يقول باران “إنه مستلقٍ في القارب شبه متحلل، مثل مومياء في تابوت، ومازالت قلاداته العسكرية ظاهرة”. إنها مثل لعنة حية، أبدية، عميقة مجسَّدة في تمثال. هناك أصول لصورة العبور للجحيم في كل من الأساطير المصرية والإغريقية، وهي مجاز مستخدم بغزارة في الفن والسينما، وإن كان قد استخدم كدلالة على حروب الحديثة بهدف استكشاف طبيعة الشر والمعاناة. في القائمة أسفل، تستكشف رؤيا هذه الصورة المتكررة بشكل موازي لعمل باران “آخر جنرال”
الكوميديا الإلهية لدانتي
في ملحمته “الكوميديا الإلهية”، يتخيل الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري إبحارًا عبر الجحيم. مستلهمًا من الأساطير الإغريقية والمسيحية، يُحمل دانتي على متن قارب عبر نهر آتشيرون (الذي يجري اليوم عبر شمال غرب اليونان) حتى مستنقعات نهر ستيكس (الذي يعتقد المؤرخون اليوم أنه نهر النيل). تعاود صورة الشاعر عن الجحيم الظهور في التمثيلات الحديثة للحروب، بأجسادها البائسة التي تتصارع على ضفاف المستنقعات الموحلة، والموتى الأحياء الذين يصارعون الغرق في أعماق المياه، والمدن الملعونة التي تلتهمها النيران.
وهناك رأيت شيخًا ذا شعر عتيق، يأتي في سفينة نحونا،
وهو يصيح “ويل لكما، أيهاتان النفسان الخبيثتان!
لا تأملا في رؤية السماء أبدًا، إني آت لكي أقودكما إلى الضفة الأخرى
في الظلمات الأبدية، في النار وفي الجليد” (مقتبس من الأنشودة الثالثة، ترجمة: حسن عثمان،1955 )
” وأنا الذي وقفت لأمعن النظر، رأيت قومًا غمرهم الطين في ذلك المستنقع
كلهم عرايا، ذوو وجوه غاضبة
تضارب هؤلاء لا باليد وحدها، ولكن بالرأس والصدر والقدمين
وبأسنانهم مزقوا أنفسهم إربًا إربًا
[….]
أن قومًا تحت الماء يتنهدون، ويملأون بالفقاقيع هذا الماء عند السطح
كما تنبؤك عينك، أينما اتجهت (مقتبس من الأنشودة السابعة، ترجمة: حسن عثمان، 1955 )
قارب دانتي ديلاكروا
يصور ديلاكروا إبحار دانتي عبر المياة المحيطة بمدينة الجحيم ديس، المعروفة باسم مدينة الأموات . يصاحبه فيرجيل ويقود القارب فليجاس. تتلوى أرواح الملعونين في الماء، وتحاول التمسك بالقارب لعلَّها تنجو من قدرها. على الرغم من أن اللوحة لا تصور الحرب بشكل صريح، إلا أنها تولى اهتمامًا خاصًا لتصوير المعاناة الإنسانية، وفي الخلفية تقبع مدينة ديس غارقة في النيران. تنتمي اللوحة لنوع من التصوير انتشر في القرن الثامن عشر، أولى اهتمامًا خاصًا للمواضيع البحرية، فصور المعارك البحرية والفتوحات الاستعمارية بين قوى هذه الفترة.
قلب الظلام لجوزيف كونراد
تتبع النوفيلا “قلب الظلام” رحلة على متن قارب بخاري عبر نهر الكونجو، في فترة الولاية الوحشية للإمبراطور البلجيكي ليوبولد الثاني. كلما تعمُّق القارب في الغابة، يبدأ الراوي مارلو بوصف فظاعات تجارة العاج وقسوة تجارة الإمبراطورية البلجيكية. يسترجع تشبيهه لشعب الكونجو المُستعمَر السلبي لكونهم ” حجاج غير مؤمنين، مسحورين داخل سور متحلل” مجاز دانتي في سياق نقد الاستعمار. في نهاية رحلته، يقابل مارلو النقيب كيرتز، الذي نصَّب نفسه إلهًا على السكان الأصليين، ولا يتوانى عن الذهاب في غارات وحشية بحثا عن العاج. ربما تمثِّل رحلة مارلو في أعماق البرية مجازًا لرحلة في أعماق النفس البشرية-حيث لا يجد شيء سوى القسوة والهوس.
نهاية العالم الآن لفرانسيس فورد كوبولا
ملحمة كوبولا الحربية “نهاية العالم الآن- Apocalypse now” (1979) تستلهم من نوفيلا “قلب الظلام”. وتتبع رحلة النقيب الأمريكي ويلارد على متن قارب حربي عبر أنهار جنوب فيتنام أثناء حرب فيتنام. يشهد ويلارد ثقافة القوات الأجنبية الأمريكية ، حيث فقد الجنود أي حساسية ضد العنف ويمشطون شواطئ فيتنام التي مزقتها الحرب.وفي أعماق غابات الكونجو المطيرة، يعثر على كيرتز. رجل ضال، مصاب بداء العظمة، بيشِّر باللاأخلاقية بصفتها علامة على القوة العسكرية. فكرة كوبولا عن الرعب هي الفراغ، إنه الشر الذي يُعتبر شر تحديدًا لأنه بلا معنى.
القارب لوولفجانج بيترسون
يتتبع الفيلم الألماني “القارب-Das boot” (1981) دورية خطرة لغواصة ألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية. تتعرض الدورية للهجوم من قبل السفن الحربية البريطانية، وبينما تهرب لأعماق البحر في محاولة لإنقاذ نفسها، تبدأ الغواصة بالانهيار ببطء، تبدأ معدلات الأكسوجين بالهبوط، ويواجه الجنود موتًا بطيئًا. يبدي بيترسون تسامحًا أكبر مع الطبيعة الإنسانية من كونراد أو كوبولا: بدلًا من أن تستقر الغواصة في الأعماق، يعمل الكابتن وباقي الفريق سويًا على إفراغهها من المياه ويتمكنون في النهاية من تشغيل المحرك وإعادة أنفسهم إلى الشاطيء.
فيليمير شلبنيكوف لأنسيلم كيفير
شكَّلت تداعيات الحرب العالمية الثانية طفولة أنسيلم كيفير، وتستلهم لوحاته من الطبيعة والميثولوجيا بهدف استكشاف طبيعة الشر. التجهيز “فيليمير شلبنيكوف” (2004)، مكوَّن من ثلاثين لوحة لمشاهد من المحيط ومشاهد سفن بحرية، ومعروض في جناح منفصل من الحديد المضلع. تبدو السفن الفارغة ضائعة ووحيدة، تبتلعها البحار الهائجة. ساعدت الطبقات السميكة من الألوان الجافة والمشققة على تعزيز شعورًا بالدمار والخراب. يقتبس العمل اسم شاعر روسى مغمور من المدرسة المستقبلية، كان قد وضع نظرية تنص على أن الحروب البحرية تحدث كل ثلاثمئة وسبعة عشر عام، وأرَّخ لها بداية من حرب طروادة. ربما من الخارج، يبدو أن كيفير يصور مشاهد موضوعية لسفن حربية، لكنها مشاهد محملة بالمجازات، وتطرح أسئلة حول الشرور التي يصنعها الإنسان بالإضافة لعنف الطبيعة التي تأبي الخضوع له.