سيقدم الفنان الكردي- العراقي سيروان باران “معرض الفنان الواحد” في جناح العراق ببينالي فينيسيا الثامن والخمسين تحت عنوان “أرض الآباء”. ولد باران في بغداد عام 1968، ويعيش حاليا في العاصمة اللبنانية، بيروت، وهو يحمل شهادة بكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة بابل، حيث تعلم هناك على يد الفنان السوري- الألماني مروان. أدى باران الخدمة العسكرية الإجبارية بصفته جندياً وفناناً حربياً خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. وأصبحت أعماله الفنية أكثر تعبيرية بعد تركه العراق عام 2005، وبدأ يتناول تجربته العسكرية من خلال تفكيك الأشخاص بشكل متنافر وتجريدات مجازية. يعتبر باران واحدا من الرسامين العراقيين المنتمين إلى ما يعرف بـ “الجيل الجديد”، ومعرض “أرض الآباء” هو بشكل ما تعليق على البعدين الذكوري والأبوي للثقافة السياسية في العراق والمنطقة بشكل عام. تحدث باران مع مؤسسة “رؤيا” عن أعماله الفنية وعن المشروعين اللذين كلّف بإنجازهما:

تفاصيل من العشاء الأخير (2019). سيتم الكشف عن الرسم عند افتتاح معرض “أرض الآباء” في جناح العراق ببينالي فينيسيا الثامن والخمسين. حقوق النشر محفوظة للفنان ومؤسسة رؤيا.

أنت الفنان الأول الذي يمثل العراق في “معرض الفنان الواحد” ببينالي فينيسيا. ماذا تأمل أن يحقق معرض “أرض الآباء”؟

ظل العراق يعيش الحروب مدة 47 سنة، وأنا عمري 50 سنة. أريد أن يشعر الزوار بالصدمة عند دخولهم المعرض، وأنا أفهم ما يعني أن يعيش الشخص كل حياته تحت وطأة نزاع لا نهاية له. حين كان عمري سنتين قاتل الجيش العراقي ضد أول تمرد كردي من أجل الحكم الذاتي. ثم شارك العراق في الحرب العربية- الإسرائيلية عام 1973. وأنا حاربتُ كجندي في الحرب العراقية- الإيرانية وكنت فناناً حربياً في حرب الخليج الأولى. وقد عزَلَنا حصار التسعينات مثل الكوريين الشماليين اليوم، وكنا نسمع الأميركان وهو يقصفون كل يوم. كذلك تم سحق الانتفاضات ضد صدام في جنوب العراق وفي كردستان بطريقة وحشية. وأعقب الغزو الأمريكي عام 2003  عنفاً طائفياً ثم النزاع الأخير مع داعش.

كيف كانت تجربتك كجندي وكفنان حربي صاغت عملك الذي نشاهده الآن؟

الجنود والجنرالات يظهرون في أعمالي ضعفاء. إذ تعكس وجوههم الخيبة، وأجسادهم الشقاء، فهي إما مشوهة أو مبتورة. غير أني كفنان حربي مع الجيش العراقي، كنت أصور الانتصارات على الجبهة وأبطالها. كانت رسومي نوعا من البروباغاندا. فرسوم البورتريه التي عملتها لصدام وجنرالات الجيش تشدد على قوتهم. إذ أن أقل كشف للخوف في وجوه القادة سيوقعني في ما لا تُحمد عقباه. كنت أرسم بأسلوب واقعي لا يتوافق مع واقعنا كجنود.

هل أثَّرَ تدريبك كجندي على أسلوبك في الرسم؟

أنا مسكون باستصغار العنف. حين التحقتُ بالجيش، كُلِّفت بقطع رؤوس الدجاج في المطبخ. وحين رآني مسؤولي متردداً قال: “لا تقلق، إنه عمل سهل”. أنا بقيت أشعر بالغثيان حتى أصبح الأمر روتيناً. بعد انقضاء سنوات، رسمت دجاجاً مقطوع السيقان: كان علي أن أطرد الصورة من عقلي. كان هناك جنود لا يتأثرون بالعنف، لكن آخرين مثلي كان عليهم التكيف معه. كان الكثير يبكون في أيامهم الأولى في ساحة القتال، لكنهم كانوا يكفون عن ذلك لاحقاً. لقد تعلمنا في بيوتنا وفي الجيش أنّ الرجال لا يبكون.

يُستخدَم تعبير “الوطن” من قبل الطغاة في خطابات ديماغوجية وفي الأدب الفاشي. كيف تفهم تعبير “أرض الآباء” في أعمالك؟

 في اللغة العربية نحن نشير إلى الوطن بتعبير “الوطن الأم” . مع ذلك فنحن عبر تاريخنا، كان الزعماء المستبدون حريصون على صياغة صورة شوفينية للقوة. فعلى سبيل المثال، اللوحات التذكارية المخصصة لانتصارات الملك الأكادي نارام سين، الذي حكم ما بين عام 2254- 2218 قبل الميلاد، تنقل غزواته وشجاعته. كذلك هو الحال مع طارق بن زياد فاتح إسبانيا القروسطية، وأحد أيقونات الثقافة العربية الحديثة، حين قال للمقاتلين: “البحر من ورائكم والعدو من أمامكم”، أي أن عليهم أن يقاتلوا حتى الموت، أو أن يغرقوا في حالة هروبهم. أظهرت نزعة صدام وحزب البعث العسكرية قوتها من خلال الوحشية والهيمنة. والجنود الأميركان الذي غزوا العراق جلبوا نسختهم الخاصة بهم للذكورة. النساء يُبَجَّلن كمقاتلات في الثقافة الكردية، والكثير من النساء التحقن في صفوف المقاومة مثل البيشمركة في العراق، وحزب العمال الكردستاني في تركيا ووحدات حماية الشعب ضد داعش. لكن بين العرب، الحرب محصورة على الرجال.

كيف أظهرتَ هذه النزعة العسكرية في أعمالك الفنية؟

سيتم الكشف عن تخطيط “الجنرال الأخير” (2018) عند افتتاح معرض “أرض الآباء” وحقوق النشر محفوظة للفنان ومؤسسة رؤيا. 

في العمل الذي كُلِّفتَ بإنجازه للجناح، هناك منحوتة طينية عنوانها “الجنرال الأخير”، وهي تصور جثمان جنرال في قارب. ما مغزى القارب، وكيف ربطته بمشهد الحرب هذا؟

الجندي والجنرال شخصيتان متميزتان في أعمالي الأخيرة. الجنرال يعطي الأوامر وهو يقلَّد الأوسمة على إنجازاته، أما الجندي فهو يحارب مثل بطل، لكنه في الأخير يصبح ضحية. فكطلاب مجندين في الحرب العراقية-الإيرانية، أجبرَنا صدام للذهاب إلى الخطوط الأمامية ضد إرادتنا، بمن فيهم الأبناء الوحيدون لعائلاتهم والمعاقون جسدياً. نحن كنا مسجونين بواسطة التجنيد. أنا دائماً أصور جسدي كنموذج للجنود القتلى، وأتخذ مواضع من ذاكرتي لساحة القتال.

كان السومريون وعدد من شعوب الحضارات القديمة، يدفنون أمواتهم بوضعهم أجسادهم في البحر على قارب مصنوع من القصب. الحاوية تنقل الميت إلى الآخرة، وبهذه الطريقة يفلتون من الموت. غالبا ما يفلت الجنرالات الكبار من السجن والموت. أنا تخيلت جنرالاً هارباً على قارب نجاة، لكنه يغرق خلال محاولته الهرب، وهذا كأنما صدى لقول طارق بن زياد الشهير. إنه يرقد في القارب حيث يتحلل جسده جزئياً مثل مومياء في تابوت ونياشينه ما زالت مرئية.

ما هو دور الفنان في الحرب؟

في وقت الحرب ليس هناك حرية فنية، فالفنان يكون إما بوقاً للنظام أو أن يتجنب السياسة بالكامل. في رأيي، الشاعر العراقي سركون بولص هو الكاتب الوحيد الذي نقل تجربة الحرب بشكل كامل. لم يخُض بولص أي حرب في حياته كجندي، لكن أشعاره تصف بدقة تجربتي الشخصية فيها. أنا اخترتُ نصين له لنشرها في كاتالوغ “أرض الآباء”.

الأعمال التي عُرفتَ بها اليوم  هي تلك التي انتجتها بعد مغادرتك  العراق. ماذا حدث؟

بعد عام 2003، كنا منتشين بتغير النظام، ثم شعرنا بالخيبة. كانت فترة من الفرح أعقبها النقيض التام لها. ففوضى القتال الطائفي جعلت الأمور أسوأ من السابق. كانت صدمة بالنسبة لنا، وكان علي أن أعبر عن هذا في رسومي. لذلك هربتُ إلى عَمّان، وهناك أصبح عملي أكثر عاطفية وتعبيرية.

كفنان معاصر، هل تشعر بأن عليك واجبا أن توثق وتؤرشف حروب العراق؟

عملي هو رد فعل على الحرب، وليس نقل وقائعها. أنا أعيد الصدمة مرة أخرى وأخرى. أنا أقوم بذلك لأني أنفتح على نفسي.

عملك “العشاء الأخير” يصور جنودا قُتلوا بينما هم يتناولون طعامهم. كيف نمّيت السرد في اللوحة؟

بالنسبة لي، المشاركة بالأكل هي رمز للتعايش، لكن في الجيش أنا شاهدتُ الجنود يُقتلون وهم يأكلون. مشهد اللوحة من فوق يجعل المشاهد شاهداً على الجريمة بالكامل، كأنه يطير فوق المشهد ويراه من أعلى. كذلك فإن الأجسام البشرية تبدو من أعلى مصطنعة ومشوهة. لكن لأن الجنود مضطجعون، ومتقوسون في أوضاع تشبه وضع الجنين، فإن المشهد الجوي لا يؤثر على الجسد. هم يبدون وكأنهم شرانق حرير، تعمل بعيدا عن الأنظار لتنتج الحرير لأصحابها.

تخطيط لـ “العشاء الأخير” (2018)، حقوق النشر محفوظة لمؤسسة رؤيا.
تخطيط لـ “العشاء الأخير” (2018)، حقوق النشر محفوظة لمؤسسة رؤيا.

ما مغزى ثياب الجنود التي قمتَ بتعليقها أيضا في العمل؟

خلال السنة الماضية، جمعتُ رسائل وبدلات عسكرية لجنود عراقيين قتلى من أهاليهم في العراق. بعض العوائل رفضت التفاعل معي، لكن غيرها أرادت أن تعلن للملأ عن خسارتها لأبنائها، لذلك سمحت لي بنشر الرسائل في كاتالوغ “أرض الآباء” مع هويات الجنود الحقيقية. البدلات العسكرية المعلقة في “العشاء الأخير” تشرِك الجنود القتلى في العمل كمساهمين في إنجاز العمل. 

هل تقلق من نمذجة العراق من قبل الإعلام باعتباره بلداً مزقته الحروب وعنيفاً؟

لا. إذ بينما توثق الصحافة الفوتوغرافية نزاعات محددة، تشير رسومي إلى حروب في الماضي والحاضر، بما فيها الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام، إضافة إلى النزاعات التي استغرقت حياة الكثير من العراقيين والتي عشتها أنا شخصياً.

إذا كان تصوير الحرب كشكل من طرد الأرواح الشريرة، كما تقول، متى ستنتهي هذه العملية بالنسبة لك؟

لا أعرف. حتى أشعر بالحاجة إلى التوقف عن التعبير عنها.