الدكتورة زينة كماش محاضرة الآركيولوجيا والفن الرومانيين في قسم الكلاسيكيات، بجامعة “رويال هولوواي”، لندن.
من الأشياء التي تبهرني دائما في المجسمات الآشورية الجديدة تلك التفاصيل المعقدة للملابس وزخارفها؛ فأنا بإمكاني أن أقضي (وقد قضيت قبل ذلك) ساعات أحدق فيها. إنها هذه الأنساق، وتلك المنقوشة على منتجات كثيرة أخرى من منطقة الموصل، التي تلهم مشروعي الحالي: “إعادة تكوين متحف الموصل”. ففي ورش العمل التي ستبدأ من أواخر هذا الصيف، والمخصصة لهذا المشروع، بادرتُ مع فنانة الألياف كارين سَلِستاين في دعوة المساهمين كي يجدوا مصادر إلهامهم من القطع الموجودة في متحف الموصل، وهي الآن موجودة بشكل رقمي، ومنها يمكن إعادة صنعها من الأنسجة. ونظرا لأن إنتاج الأنسجة والتجارة لهما تاريخ عميق في الموصل والمنطقة المحيطة بها، ابتداء من الحقبة “الآشورية الجديدة” على أقل تقدير، فهذا يجعل من الوسط مثاليا للمشروع.
تُظهر النصوص من الحقبة “الآشورية الجديدة” لنا غنى في المفردات التي كانت موجودة آنذاك لتسجل وتتحدث عن الأنسجة في القرن التاسع قبل الميلاد ( لتقرير كامل راجع Gaspa 2017). هذه النصوص تعطينا نظرة معمقة لمدى الاستعمالات الواسع لأنواع الأنسجة في تلك الفترة. فبعض الثياب، على سبيل المثال، كانت تُحفظ لمناسبات محددة، مثل الـ “لاماهوشو” الذي هو ثوب من الصوف، يستعمل لمناسبات طقسية، والـ “شِريتو” وهو ثوب مخصص لتماثيل الآلهة حيث يتم تلبيسها بها (Gaspa 2017, 55, 65). كذلك هناك أنواع من أجزاء من ثياب ذكرتها النصوص القديمة بما فيها شريط أو حزام أو وشاح (نيبوهو) وأغطية جلدية للساق أو جوارب (شاهاراتي) (Gaspa 2017, 58, 61) . كذلك، سمعنا عن بعض الثياب ذات الألوان الصاخبة فبعض الأنسجة كانت حمراء وسوداء وبيضاء ويبدو أنها كانت أكثر الألوان شعبية، جنبا إلى جنب مع الأحمر-الأرجواني، والأزرق، والأزرق- الأسود والبنفسجي (Gaspa 2017 passim).
إضافة إلى الألوان، يمكننا أن نقرأ عن أشكال أخرى من التزيين، مثل الحواشي (appu and sissiqtu; Gaspa 2017, 78, 81)، إضافة إلى موتيفات الحيوانات (الثيران والماعز)، التويجيات والأوراق والشرفات (Gaspa 2017, 68, 69, 83). أحياناً، حين يحالفنا الحظ، نعثر على أنسجة حقيقية من تلك الحقبة، فعلى سبيل المثال هناك مئات من الأبليكات على هيئة زهيرات من نمرود (Collon 2008). كذلك فإننا نستطيع أن نرى هذه الموتيفات على الأقمشة ملبوسة ومستعملة في مجسمات من المرحلة الآشورية الجديدة.
إضافة إلى هذه الأدلة على وجود الأنسجة، نحن لدينا أيضا أدلة أركيولوجية لبعض الأدوات التي استخدمت لإنتاج هذه الأنسجة. ففي خربة خاتونة، على سبيل المثال، تم العثور على بقايا من نَول متفحم وأثقال النول الطينية وجدلات المغزل، كذلك تم العثور على ما يمكن أن يكون خافقاً للُّحمة (Curtis and Green 1997, 18-21). في تل بارسيب (تل أحمر) تم العثور على تيراكوتا لصبغ الأدنان، بافتراض أنها تطلى بالألوان الأحمر والأبيض والأسود، وقد تم العثور على ألوان أخرى، جنبا إلى جنب مع أثقال النَول وملعقة مسطحة عظمية (Bunnens 1997, 21). كل هذا يضاف إلى صورة معقدة ومجموعة واسعة الأفق من الأواصر مع الأقمشة في العالم “الآشوري الجديد”.
هذا التأريخ النابض بالحيوية لانتاج القماش يمتد، من دون شك مع قدر من التحولات، إلى ماضي الموصل القريب أيضا. فالموصل، على سبيل المثال، مشهورة بكونها مركزا لإنتاج الحرير – يبدو أن الستائر الممتازة تصنع من الحرير وقسم منه يتم تصديره إلى بلدان أخرى (Al Kubaisi (no date), 1-2). إضافة إلى الحرير، كانت الموصل تنتج القطن والصوف. وحتى أواخر القرن التاسع عشر كان الغزالون في القرى وحول الموصل يجهزون النساجين بأكثر من مليون ونصف المليون رطل من خيوط القطن (Faroqhi et al. 1997, 907). وكان الطلب عاليا جدا على المنتوجات النسيجية إلى الحد الذي يُجبَر فيه النساجون على استيراد القطن من حلب ليضيف ما كان يُنتَج محليا (Shields 2000, 77). وكان تلبيد الصوف ونسج القطن والصوف جاريا آنذاك، حيث الأنوال موضوعة في أقبية البيوت. ويقدر عدد الأنوال اليدوية آنذاك بألف نَول في المدينة عام 1910 (Shields 2000, 78). وكان هناك طلب عالٍ على الأقمشة ذات الألوان البراقة، مع استعمال أصباغ طبيعية ظلت متداولة حتى التسعينيات من القرن التاسع عشر حين نزلت إلى الأسواق أصباغ الأنيلين الصناعية (Shields 2000 78 ). إضافة إلى ذلك، كانت هناك احتكارات على بعض أصباغ الأنسجة، مثل النِيل الذي جعل عمل دُور الصباغة مربحا جدا، وقادرا على جلب دخل للحكومة أكثر من أي دخل غير زراعي آخر (Shields 2000, 78).
The dress (left) and jacket (right) from the costume belonging to Miss Fakhira Shasha’s grandmother [Photos: British Museum CC BY-NC-SA 4.0]
هناك الآن طقم من الثياب التي تعود لأواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في عناية المتحف البريطاني. وهذه الثياب تبرعت بها الآنسة فاخرة شاشا عام 1973 وكانت جدتها المصلاوية قد لبستها. وقد توفيت جدتها عن عمر 90 سنة عام 1951. تشتمل مجموعة الثياب هذه على قميص قطني، وصِدّار قطني أبيض مع بروكاد من الحرير والذهب، وسترة أرجوانية من المخمل مع بروكاد ذهب، وثوب حرير أصفر وأبيض مع بروكاد أزرق، وسروال بمربعات لونه أخضر وبرتقالي مع نطاق أزرق، وحزام حرير مع زخرفة مطرّزة لونه بخيط أصفر من ذهب وحاشية مشبكة وصدّار قطن مع زخرفة مطرَّزة بخيط من ذهب وفضة.
من الممكن مشاهد بعض من هذه التقنيات اليوم في متحف النسيج الكردي بمدينة أربيل، التي يأمل أن يحفظ صناعات النسيج اليدوية للمستقبل. إنه أملي بأن يستطيع مشروعي “إعادة تكوين متحف الموصل” المساهمة في هذه الجهود فيتمكن من ربط التراث الثقافي المصلاوي بماضيه الأقدم بالماضي القريب.