عليّ رشيد رسّام وشاعر عراقيّ الأصل ومُقيم في هولندا، تابع دراسته الإعداديّة في معهد الفنون الجميلة في بغداد ثمّ لاحقاً في الأكاديميّة الملكيّة للفنون في لاهاي. عايش رشيد الحرب الإيرانيّة-العراقية وحرب الخليج الأولى، وتُعتبَر أعماله ردّاً مباشراً على أعمال العنف والنّزاع المستمرّة في العراق. في أعماله المبكّرة رسم مشاهد تفصيليّة ومختَلَطة تمثّل شخصيّات إنسانيّة وميتولوجيّة، وهو يُنتِج حالياً تشكيلة واسعة من اللوحات التجريديّة والرسم بالحبر تجمع ما بين العبارة المكتوبة وفنّ الكولّاج والقصاصات الإعلاميّة. ويَعتبر رشيد أنّ أعماله تصوّر “لغة الحرب”.
ما هي لغة الحرب؟ وكيف تتناولها كَفنَّان؟
الحرب تستعير لغة مُفْتعليها، وهي لغة موبوءة غالباً بالكراهية والعنف والتَّسويغ. فحين تُرتكَب أفعال مُشِينة من قتل جماعي أو تدمير مدن أو محاصرة الناس بالموت والتِّيه لا يمكنني كَفنَّان أن أغضَّ النظر عمّا يجري حولي. حاولت كفنّان أن أصنع لغتي الخاصة، لغة مضادة للغة الحرب ومُمجِّديها، من خلال تدوين بشاعتها ورسم ضحاياها بطريقة احتجاجيّة والإشارة إلى فعلها الجنونيّ الخارج عن نطاق الزمن والوقوف في وجه ثقافتها من خلال الأعمال التي كنت أنفِّذها بشكل يومي كفعل احتجاج على فعل الحرب وآلام الضحايا.
أنتَ أنتجْتَ سلسلة من التّخطيطات حول الحرب الإيرانية- العراقية في خلال ثمانينات القرن الماضي. ما الذي حفّزك في ذلك الوقت على القيام بذلك؟
لم تكن الحرب حدثاً طارئاً في حياتنا كعراقيين، بل هي باتت تتوالد فينا. فبعد أن تبثّ جنونها حولنا، وتجمع غلّتها من أرواحنا، لا تتركنا إلا وقد أورَثَتْنا لمصائبَ حرب أخرى. كانت حرب الثمانينات “الحرب العراقيّة – الإيرانيّة” قاسيةً جدّاً لأنها دامت ثماني سنوات، وهي مدّة مُفزِعة وكارثيّة في حساب الحروب، التهمَتِ الأخضر واليابس وخلّفت ضحايا وصل عددهم إلى المليون قتيل وعدداً لا يُستهان به من المعوّقين جسدياً وعقليّاً. لم تبقَ عائلة عراقيّة من دون أن تدفع عدداً من أبنائها ضريبة لهذه الحرب. بالنسبة إليّ كانت الضريبة كبيرة إذ فقدت فيها أخي الصغير، وصفي رشيد، وهو في الرابعة والعشرين من عمره. كان فنّاناً يبشّر بالكثير. كلّ هذه الوجع والخراب الذي لم يكن لِيُحْتمَل قادني إلى أرشفته بشكل يوميّ بالحبر على الورق في مشروع أسميته “تدوين الذاكرة”. تخطيطات كانت عنيفة وصادِمة تحسّ معها بسعير الحرب وبوجع ضحاياها. ما تزال هذه التّخطيطات تحمل عنف المشهد وصدمة التلقّي. أتذكر حين عرضتها قبل سنوات طوال على استاذة التخطيط في الأكاديميّة الملكيّة كيف بقيَتْ صامتة لفترة طويلة قبل أن تبادرني بسؤال: “ما الذي تفعله هذه التخطيطات معك؟ لماذا لم تُحفَظ في متاحف بلدك أو العالم العربي؟ هذه أرشفة حقيقيّة وصادقة للحرب لم أَرَ لها مثيلاً إلا في أعمال الالمانِيَّيْن بيكمان ودكس. بقِيَ سؤالها هذا يؤرقني ويؤلمني لأنني أعرف عالمي العربيّ جيّداً.
استمرّيْتَ في إبداع أعمال حول الحرب في العراق خلال فترة إقامتك في المنفى في تسعينات القرن الماضي. كيف ساعدتك تجربة المنفى على تطوير منظورك إلى هذا الموضوع؟
المنفى بشكل عام هذّب تجربتي كثيراً من خلال الدراسة والإطّلاع والمشاهدة. وبالطبع أنعكس هذا التأثير على أيّ مشروع فنّي أعمل عليه بما فيه مشروع تدوين بشاعة الحرب ومآسي الضحايا الذي بقيَ ملازماً لضمير الفنّان الذي يهتمّ ويتوجّع لأي حدث مُفْجِع. في الغرب اتَّجهت إلى صِيَغ عمل جديدة تُحيل إلى الحدث عبر استعمال موادّ تشير إلى الفكرة بوعي، إلى التّنصيص والدمج والاستعارات إضافة إلى الرسوم التي ظَلَلْتُ حريصاً على تنفيذها كلّما أحسست بالحاجة إلى ذلك.
كيف تحوّلت إلى رسوم أكثر تجريداً كما نراها اليوم؟
كما ذكرت سابقاً ساعدني العيش في الغرب على التواصل مع تجارب فنّيّة مهمّة ومغايرة ، ومن خلال التّواصل والإطّلاع والبحث توصّلت إلى نقطة مهمة تتعلق بقيمة الزهد في العمل الفنّيّ وبنَبْذ الثرثرة التي لا تخدم العمل الفنّيّ بقدر ما تُربِك مساعيه الفلسفيّة والمعرفيّة والجماليّة. هذا البحث جعلني أتخلّى ومنذ أكثر من عشر سنوات عن “العنوان” الذي أَجِده سلبيّاً في تَعطيله قابليّة المتلقّي لاكتشاف العمل ودلالاته ومراميه، وفي تَحْجيمه الحوار الذي هو مهمّ لديمومة العمل. في المقابل وجدت أنّ الفنّان غير مطالَب برسم الشكل بل أثره لجعل الآخر يبحث في هذا الأثر عن دلالات تقوده إلى بناء أشكاله ومراميه الافتراضية في التعامل مع العمل الفنّيّ. هناك مثل أكرره كثيراً على طلبة الفنّ ودارسيه ومفاده أنّ “هناك من يتحدث ساعات طوال ليصف لنا مشهداً صغيراً، في المقابل هناك من يختصر تاريخاً في جملة صغيرة”. في مشروعي البصريّ أحاول بإشارات بسيطة وزهد لونيّ وشكليّ أن أحيل المشاهد إلى سعة المشهد من خلال الحوار والبحث والإحالة.
من هم الفنّانون والرسّامون الذين كان لهم تأثير ما على عملك؟ ولماذا؟
تأثرت معرفيّاً وبصريّاً بالكثير من الفنّانين العظماء، منهم، والأقرب إلى ذائقتي، الفنان الأميركي سي تومبلي الذي أشاركه زهد العمل الفنّيّ الذي يشير بتفاصيل صغيرة إلى ما هو أعمق، وسط فضاء واسع. وكذلك بـِتابيس الاسبانيّ وكيفر الالمانيّ من ناحية استعمالهما المادة المبذولة والمستهلَكة واللّذيْن تشكّل أعمالهما تدويناً للحياة اليوميّة وتفاصيلها. وقد عمل كيفر كثيراً على موضوعة الحرب. معرفيّاً ساهم فنّانان عظيمان في كلّ هذا التغيير الذي أَفْضى إلى فنّ ما بعد الحداثة، وما بعدها، وقاد إلى المفاهيميّة كفِعلٍ في الفنّ، وهما دو شامب الذي فتح للفنان باب حرّية استعمال المادة للتّعبير عن فكرته حتى ولو كانت مِبْوَلة كما في عمله الذي قدّمه في بداية القرن الماضي. ثمَّ الألمانيّ بويز الذي أعتبر أن الفنّ مشاع للجميع، وأنّ من حقّ أي إنسان ممارسته، حتى ولو لم يكن فناناً. هؤلاء وآخرون ساهموا في تهذيب ذائقة المتلقي لديّ، ومن ثَمّ وعي الفنّان في التعامل مع نصّه البصريّ. عربياً أجد ذائقتي قريبة أيضا من أعمال الفنّان الراحل شاكر حسن آل سعيد.
رسومك الأخيرة تشتمل على مصادر إعلامية أخرى مثل صور الفضائيات وقصاصات صحفيّة. كيف أثّر وصف العراق في الأخبار والإعلام على عملك؟
ما تزال أخبار العراق تؤثر على وضعي النفسيّ كإنسان وكفنّان بالرغم من غربتي التي امتدّت إلى ثلاثين عاماً. المصادر الإعلامية والمشاهد المتداولة وصُوَر المدن التي خرّبتها الحرب وشوّهت ملامحها، هجرات الناس الجماعية، كلّ ذلك يجعلني أعيد صياغة المَشاهد فنّيا كنوع من الاحتجاج، بل يجعلني استثمر الصور والنصّ الطباعيّ وبقايا الصحف في تضمين العمل عناصرَ ودلالاتٍ تُساهم في تحقيق تناصّ بين العمل والواقع.
إذا أردت إعادة تجسيد العراق في عملك كيف سيكون؟
هنالك حَيْرة ومتاهة في تجسيد بلد مثل العراق في عمل فنّيّ. فهذا البلد بالرغم من الحروب المتعاقبة والخراب والفساد ينتصر في حربٍ ضارية على داعش، أعتى منظمة إرهابية في العالم، في وقتٍ وقف العالم عاجزاً أمام قوتها وتمدّدها. بلد يعجّ بالمبدعين والناس الطيّبة والمتسامحة وسط هيجان طائفيّ مَقيت. العراق مرّ بتواريخ من الانكسار لكنه لم يتلاشَ، وسقطت بغداد غير مرّة وأعاد العراقيّون بناءها. هناك وجع كثير أُشير إليه كفنّان، لكنني أجسِّده كَنخلةٍ عصيّة على الاجتثاث. حصانته هي من تاريخه الممتدّ إلى السبعة آلاف سنة من تاريخ البشرية.
ما الذي يستطيع الفنّانون القيام به للتعبير عن فظائع الحرب بطريقة مختلفة عن تلك التي يتبعها الناشطون في مجال حقوق الإنسان والصحفيّون؟
عمل الفنان مختلف عن عمل الصحفيّ والناشط في مجال حقوق الإنسان. الصحفي ينقل الخبر والصورة من واقع الحرب ليوصل المعلومة، والناشط يتعامل مع هذا الواقع “الحرب” من خلال التنديد والبحث عن سبل مساعدة المتضرّرين والدفاع عنهم، أمّا الفنّان فهو من يشير إلى بشاعة الحرب ويستفزّ العالم ليرى بشكل أعمق حجم الجريمة. العمل الفنّيّ الذي يُنتجه الفنان يتسامى كأرشفة تاريخيّة مع الزمن ويبقى شاهداً على عصر الخراب الذي سببته الحرب، كذلك يساهم في تهذيب النفس البشرية في تعاطيها مع هذه المفردة ويوقظ ديمومة الاحتجاج عبر عصور مختلفة. بعد عقود من الزمن أصبح العثور على خبر صحفيّ أو فعل ناشط سياسيّ أقل تأثيراً من عمل الفنّان الكبير بيكاسو في رسمه جريمة قصف مدينة جورنيكا بالقنابل.