في عام 2008، أسست القيِّمة أنيتا سايلاك والفنان هيوا كاي “الجفاء” Estrangement، وهي سلسلة من ورش العمل للفنانين في إقليم كردستان العراق. وفي هذه المقالة التي كُتبت بعد عشر سنوات كمقدمة للعدد الثاني من مجلة “دفاتر رؤيا” تتحدث سايلاك عن التحديات التي يواجهها هذا المشروع المبتكر.

لا تحزن. كلّ ما تفقده يعود إليك في صورةٍ أخرى – جلال الدين الرومي

هذه المجموعة من النصوص، قمنا باختيارها أنا وهيوا ك لتعكس ما يربو على العشر سنوات من العمل المشترك، ولتحدد الخلفية النظرية لرفقتنا وقراءاتنا و تعليمنا وتنظيمنا للأحداث الفنية. وقد كانت نتيجة لعملنا Estrangement”غربة”، وهو مشروع فني تعليمي أقيم على عدة مراحل بين عامي 2008 و2012 في إقليم كردستان – العراق. كان هدفنا هو تحفيز المشهد الفني في البلاد مع تطوير للّغة البصرية بعد تراجعها من الحياة اليومية.
وبعد رحلاتنا الأولية للبحث الميداني في كردستان العراق، نظمنا عددًا من ورشات “غربة” مع فنانين من السليمانية، ومعرضين تحت نفس المسمى في جاليري “ذا شو روم” بلندن، وبمعهد ويسبا للفنون بجدانسك، بولندا في إطار (Alternativa 2012). وعن هذه الخبرة أصدرنا أيضًا كتيبًا بنفس العنوان، يحتوي على حصيلة ممارساتنا وتأملاتنا، من تحرير فرانشيسكا ركيا.

أنيتا وهيوا في أربيل.

(c) Aneta Szyłak

وبالسفر بين أوروبا والعراق (أنا بولندية الأصل وهيوا كردي عراقي مقيم في برلين) فقد عملنا من خلال عدة إختراعات ايديولوجية وكولونيالية لمفهوم “الشرق”، الأوسط أم الأدنى، و أوروبا الشرقية أم وسط أوروبا. وقد حاولنا تحدي الجغرافيا المعتادة بتحريك شعورنا بالانتماء. فالانتماء هو مجموع رؤانا وليس مجرد نقاط مرجعية ثابتة، وهو فضاء مؤقت يمكنه احتواء الأسئلة الملحة.

وكان التحدي هو أن نتعلّم ونضيف في الوقت نفسه معرفةً عملية، وأن نلتمس أسسًا فيما يطلق عليه “التعاون العابر للثقافات”.

وكيف ذلك؟ لم تكن خطتنا محددة سلفًا، بل تطوّرت بالتجربة والخطأ. درسنا الموضوعات التي شعرنا أنها ملحة في العراق وأيضًا تلك التي ظهرت بالتدريج كنتاج لأبحاثنا. وبحثنا عن أنماط غير تراتبية لإشاعة الأشكال والأفكار الجديدة. وحاولنا تجاوز إشكالية التعامل مع ثقافة المرء الخاصة وكيفية إيصالها بعيدًا عن السرديات الجاهزة وأشكال المفاهيم المسبقة. كانت الورشات التي أدرناها متحررة من الأطر الرسمية. لا تهدف لتعليم المشاركين ما هو الفن المعاصر، ولكن جعله ممكنًا عبر الاحتكاك الشخصي، والتأثير المتبادل بين السياق المحلي والنشاط الجماعي. وقد صرنا مع المشاركين في الورشات كمجتمع صغير قيد التشكّل، نصارع الجدليات المعروفة وغير المعروفة لنبلور لغةً مشتركةً تجمعنا معًا.

(c) Aneta Szyłak

أدرنا أنا وهيوا تلك الورشات في أماكن ذات دلالة بالنسبة للمجتمع المحلي كالمعتقلات السياسية، والفضاءات التي يديرها فنانون، والمواقع الأثرية والتاريخية. وتحادثنا جميعًا وقرأنا معًا وتمشينا عبر شوارع السليمانية وأربيل وحلبجة. وعبر تفاعلاتنا اليومية حاولنا إيجاد معانٍ أخرى محتملة لتلك المواقع. أردنا الامتزاج مع السياق بخلق احتكاك مع العالم، وتبديل زوايا النظر والحضور في الزمان والمكان. كان هدفنا هو تكييف ممارستنا كفنانين وقيمين داخل السياق الآني في العراق. كنا نرى أنفسنا كجزء من هذا السياق، وأردنا تذويب الأفكار والأحكام المتكلسة عن العراق. ومارسنا عملنا لا كخبراء أجانب، لكن كهولاء المتسلحين بالتساؤلات.

في ورشة “غربة” بالسليمانية.

ناقشنا كيفية صياغة موقف واضح. سعينا إلى تفكيك المفاهيم العتيقة المرتبطة بالعراق، الذي لا زال يشار إليه كـ “مهد الحضارة” أو “بلاد الرافدين” . فيما بدا وكأن العالم يهتم بآثار العراق القديمة أكثر من اهتمامه بشعبه. وناقشنا العبء والتحدي الذي تمثله التقاليد. والتي وإن كانت مصدرًا قيّمًا، فلا ينبغي إعادة تمثيلها مرارًا وتكرارًا في الثقافة العراقية المعاصرة. وهو ما يجوز أيضًا على تقاليد التصوير القديم والحديث، سواء كان تشخيصيًا أم تجريديًا التي لا تزال سائدةً كشكل في البلد. فالفن المفاهيمي لم يتطوّر بعد في العراق، ولم يُعترَف به من قِبَل موسساته التعليمية والفنية. وتتمحور أسئلة عديدة أيضًا حول الوضع الما بعد استعماري في العراق. كيف يمكن للفنان أن يرتبط بثقافه بلده بينما هو يكافح الصور الراسخة عنه. ما هي الاستجابة للتورط الاجتماعي في التحول السريع نحو الرأسمالية في كردستان أعقاب سقوط صدام حسين؟ كيف يمكن تحديث مناهج تدريس الفنون البصرية حتى يكون الجيل الجديد من الفنانين في العراق مؤهلًا للأزمنة القادمة؟ بالنسبة لمبدع الفنون البصرية المعاصر في العراق فإن التحدي يكمن في كيفية دمج هذه الكفاءات الفنية الموجودة والتقليد الثقافي السائد مع الوضع الحالي في العراق.

وهكذا، فإن هذه المختارات من النصوص ترمي إلى تطوير شكل فني جديد مستمد من الحياة اليومية في العراق. ويجب أن يكون هذا الشكل استجابةً لفقدان الثقافة المادية وتراجع نمط الحياة التقليدي الجمعي. وفي نفس الوقت ينبغي أن تظلّ واعيةً لما هو مميز في العراق وتحثّ الفنانين على احتوائه. وليظلّ التركيز على تحديث السياق. وهي تكتشف كيف أن تضمين اليومي في الممارسات البصرية سيعكس ماهية عراق اليوم. وقد حاولنا، مزودين بهذ الاهتمام المشترك في الممارسات والأوضاع اليومية، إيجاد أشكال ومواد تكون دارجة في العراق، وبحثنا عن حلول بصرية لما وجدناه. وبمعنى آخر فنحن لم نجيء كحلّ هيكلي، ولكن كميليشيا تكتيكية دائمة التغير.

(c) Aneta Szyłak

وأثناء مشروع “غربة”، وبينما نسير ونتكلم، ونشاهد المدينة من أعلى التلّ، ونفحص مواقع الاعتقال والتعذيب والإبادة الجماعية، ونشرب الشاي أو نتناول الطعام أو نسبح بجوار السدّ كنّا نبحث عن لغةً تحتوي الظرف . هذا الدفتر هو مجموعة من المواد النظرية والعملية ترمي إلى تيسير تحوّل المشهد الفني بتوظيف الأشكال الدارجة وتحوّر المنظور الذي نضج على مهل.

ونأمل أن تدعم هذه النصوص الحوار بين الفنانين في العراق، وتعزز القدرة على إيجاد وسائل لأنماط العمل التي اكتشفناها منذ وقت. وقد كانت نافعةً معنا.

وأخيرًا ، أود هنا أن أشكرَ هيوا ك على تعريفي ببلده بتوجيه وكرم غير عاديين.

ترجمها عن الإنجليزية: ياسر عبد اللطيف

عجلة عربة ألهمت لاحقًا عرضًا آدائيا قُدِمَ في شوارع لندن في إطار مشروع “غربة”.