خلال الأيام الأولى من حرب الخليج الأولى عام 1991، حلمت الفنانة والكاتبة العراقية نهى الراضي بشجرة تُخرج أرغفة خبز. وفي حلم آخر، شاهدت قطعات عسكرية أميركية تسير في شارع حيفا، الحي السكني الذي أعيد تجديده مؤخرا في بغداد، وكانت تقودهم امرأة تعلق عباءة على كتفيها.
كان الفن والبناءات العالية المستقبلة جزءا من خطة تطوير شارع حيفا تم إطلاقها على يد صدام حسين في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، مع استعداد مدينة بغداد لاستضافة مؤتمرين دوليين.
نشرت الراضي يومياتها عن حرب الخليج وما ترتب عنها عام 2003. واليوم تمت إعادة إنتاج أحلامها بأبعاد ثلاثية وصور رقمية في عمّان على يد الفنانة علاء يونس من خلال تركيبة “خطة بغداد الكبرى النسوية” التي كلفتها بها وقدمتها مؤسسة دلفينا اللندنية. وفيها جرى تغطية رأس الراضي بنخلة وأرغفة خبز متطايرة. ويعكس الارتباك القائم في الصورة طبيعة الحلم كبناء تشكيلي.وتحتها، هناك صورة صف منتظَم من الجنود الذين جرى تلصيقهم رقميا على صورة فوتوغرافية لشارع حيفا تعود إلى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، عندما كان في طور الإنشاء.
ينسج مشروع يونس حكايات النساء العراقيات معا واللواتي كما ترى أنهن لعبن دورا أساسيا في التطوير العمراني لبغداد ابتداءً من عقد خمسينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا. ويرتبط تطوربغداد العمراني خلال تلك العقود بالهزات السياسية التي عاشتها المدينة آنذاك، وهي “تكشف العلاقة ما بين المعمار والسلطة” كما تقول يونس. وإضافة إلى راضي، يتضمن هذا المشروع قصصا للمعمارية وجدان ماهر، التي كانت جزءا من فريق أشرف على تصاميم نصب الشهيد، وبناءات عديدة من خلال عملها في قسم السياحة بوزارة الثقافة في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، والكاتبة بلقيس شرارة، زوجة المعماري العراقي رفعت الجادرجي، الذي تعرض للسجن نتيجة لنزوة من طرف حزب البعث عام 1978. وقد حملت شرارة وثائق من وإلى زنزانة زوجها في سجن أبو غريب تسمح له بتأليف كتابه ذي التأثير العميق “الأخيضر وقصر الكريستال”. تقرأ يونس في كتاب شرارة: ” إنها ماهر التي أخبرت شرارة بأن الجادرجي سيتم إطلاق سراحه من السجن عام 1980، إذ أن صدام يريده كي يعمل على مشاريع البناء الجديدة هذه.” كذلك، تظهر الفنانتان فهرلنيسا زيد وليلى العطار، والمعماريتان ألين جودت وزها حديد في كتاب يونس.
وتتنامى القصص بدون إحكام حول تصاميم لوكوربيه الخاصة بـ “ملعب بغداد” و”المركز الرياضي”. ويشمل المجمَّع على مدرَّج وجمنازيوم يشكلان جزءا من خطة أوسع للمدينة قام بابتكارها خلال الخمسينيات من القرن الماضي رئيس الوزراء آنذاك، نوري السعيد، وتم التكليف بتنفيذها من قبل الملك فيصل الثاني، عند حدوث أول ازدهار نفطي في العراق.
كانت هذه الخطة الاصلية تشمل بناءات جديدة من تصميم لوكربيه، ووالتر غروبيوس وفرانك لويد رايت، وآلفار ألتو وجيو بونتي. كذلك بدأ معماريون عراقيون جدد مثل نزار جواد والجادرجي بالمساهمة في التصاميم والإنشاء. مع ذلك فإن هذه المشاريع تم تجميدها بعد الثورة التي أطاحت بالملكية عام 1958. تقول يونس: “كانت للأنظمة المتعددة التي سيطرت على بغداد خلال العقود التي تلت الثورة عبر الانقلابات العسكرية والثورات والغزوات، رؤى وأفكار مختلفة للمستقبل. مع ذلك فإن الخطة الأصلية لم تختفِ أبدا بل تكيفت مع الزمن.”
والمشروع هو تتمة لعمل قامت به الفنانة يونس سابقا عنوانه “خطة لبغداد الكبرى” (2015) والتي كلفت به للمساهمة في معرض “مستقبل كل العالم” في بينالي البندقية (فنيسيا) السادس والخمسين. وفي ذلك العمل، حكت يونس قصة سبعة رجال بضمنهم الجادرجي كانت أسماءهم قد ظهرت في قصص ذات صلة بإنشاء جمنازيوم المعماري لوكوربيه في بغداد.
وقد تم إحياء تصاميم لوكوربيه بعد وفاته في أواخر السبيعنيات من القرن الماضي على يد الموظفة شيرين محمد علي (التي تظهر أيضا في تركيبة يونس) وقد تم الانتهاء من إنشاء البناية عام 1980. وتتكون تركيبة يونس من نموذج للجمنازيوم وصور مطبوعة ثلاثية الأبعاد لسبعة وجوه نسائية تم أبراز صورهن من فوتوغرافات ثلاثية الأبعاد ومن مواد أرشيفية عثرت عليها آلاء يونس. وعلقت خلفها إفريزا يضم صورا مؤطَّرة ونصا، وكلها مأخوذة من تخطيطات معمارية، وتقارير عن مبان، وكاتالوغات معارض، ومجلات، ويوميات ومقابلات. وكل هذه المواد تحكي قصص هؤلاء النساء والتنمية العمرانية لبغداد، بشكل متسلسل زمنيا من اليمين إلى اليسار. ومن بين النساء اللواتي أبرزت صورهن ندى زيبوني، وهي معمارية ذهبت من بغداد إلى باريس لدورة صيفية على حساب مكتب متعاقِدي لوكوربيه. وهناك لوحتان للفنانة فهرلنيسا زيد الزوجة التركية للأمير العراقي زيد الذي انتقل إلى المنفى بعد أحداث عام 1958، كذلك ظهرت صورتها في الإفريز. بعد استقرارها في عمان، “أنشأت زيد أكاديمية فنون خاصة للنساء في عمان. وبعض من تلامذتها ساهموا لاحقا في إنشاء مؤسسات ثقافية رائدة في المدينة مثل “دارة الفنون” كما توضح يونس. كذلك يظهر في الإفريز صورة غلاف العدد الأول من مجلة “العمارة” التي نشرتها ماهر عام 1982، حيث تظهر جنبا إلى جنب مع يوميات شرارة. تقول يونس: “أنا قابلت بعض النساء اللواتي يظهرن في العمل. هن يعشن الآن في لندن وماهر جاءت لمشاهدة المعرض”. وقبيل انتهاء الجدول الزمني للعرض تظهر زها حديد وهي تقدم محاضرة في “دارة الفنون” بعمان عام 1997. وكانت يونس قد حضرتها كطالبة هندسة معمارية، وإحياء النقاش حول جمنازيوم لوكوربيه من قبل مؤرخة العمارة كاسيليا بييري التي زارت العراق بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 بفترة قصيرة. تقول يونس: “لم يكن لزها أي مشروع في العراق، مع أنها كانت مهمة جدا لجيل من المعماريين الشباب في الشرق الأوسط، بمن فيهم أنا.. عملها على التفكيك في العمارة يقلد ما تقوم به بغداد من تفكيك لنفسها.”
إضافة إلى إظهار العلاقة ما بين المباني والسلطة، فإن المشروع يطرح أسئلة عن طبيعة الإرشيفات، وكتابة التاريخ والسعي إلى الحصول على المعرفة. لذلك فإن يونس بإمكانها أن تصف بالتفصيل محتوى تقرير البناء، وقصصا عن حياة شخص كتبها آخرون، أو مذكراتها عن محاضرة زها حديد في عمان. ” سألها طالب ما إذا كانت استعملت مرةً المقياس (وهو مسطرة معمارية) فانفعلت بالسؤال،” كما تذكر. تكشف يونس عن ذاكرة خارقة للمألوف، فهي مثل خطابها، السريع الإيقاع والناعم يمضي مسرعا للحاق بمعرفتها الانسكلوبيدية.
فتقديم بحثها كشبكة من التواريخ والذكريات والتقارير والرسوم والصور المترابطة بعضها ببعض، باعتباره شيئاً يتعارض مع أرشيف منظم،أو كأنه مقالة في مجلة أكاديمية من اللازم أن تكون مناسبة لها. تقول يونس: ” أحيانا، عندما أقوم بجولة لعرض التركيبة،ألاحظ أن جوانب فاتتني من قبل،أو صورا كان بالإمكان تبديلها بغيرها أوإعادة العمل عليها.”
خلال عرض الصور والوثائق ظل الإفريز يتقلب بين الحقيقة والخيال. ففي لوحة فهرلنيسا زيد، “وليمة في الصحراء” (1957) تحتفل الفنانة ببغداد برسم أسطوري لها بجعلها مدينة مسورة من العصور الوسطى. وإلى جانب صورة اللوحة هناك رسالة من والتر غروبيوس إلى المعماري ألن جودت، وفيها يسأل بأدب عن دفعة مالية لم تصله. تقول يونس: “ليس لدي أي طريقة للتأكيد على أن القصص حدثت حقا كما توصف في اليوميات أو من خلال المقابلات. الذاكرة بطبيعتها غير موثوق بها. وعدم اليقين هذا هو جزء من القصة.”
ومن خلال توسيع البحث، تقوم يونس أيضا بتسليط الضوءعلى عدم ثبات السرديات الوطنية والنصب التذكارية. فموت ليلى العطار التي عملت كمديرة لـ “مركز صدام للفنون” في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي عُرض أيضا في التركيبة the installation . تشرح يونس قائلة: “قُتلت ليلى العطار بقصف أميركي. وقد صور الإعلام العراقي الحكومي الهجوم باعتباره ردا مستهدفا لعمل العطار الأخير الذي يحط من شأن الرئيس الأميركي جورج بوش. لذلك فهي قد خُلِّدت بموتها وأصبحت بطلاً وطنياً.”
تجري الهزات السياسية المتواصلة لبغداد على امتداد سرديات يونس. “تصف يوميات الراضي حتى الأشياء القليلة التي غيرت حياة الناس اليومية خلال حرب الخليج ثم الحصار الذي تلاها،” تقول يونس. يمكن القول إن العمل الفني هذا قد تأثر جزئياً بلقاءات يونس بالعراقيين الذين هربوا إلى الأردن بأعداد كبيرة عام 1990 – الكثير منهم طلاب تجنبوا التجنيد الإجباري- حينما كانت طالبة هندسة معمارية في عمان. “وجد العراقيون رجالا ونساء أنفسهم يصارعون للحصول على وظائف عند قدومهم إلى الأردن على الرغم من أنهم كانوا مدراء لأقسامهم في العراق،” تتذكر يونس، “كان للفنانين العراقيين تأثير هائل على الخطاب الفني في عمان.”
النساء في مشروع يونس هن باروميتْر لدورهن في الثقافة العراقية. وهذا بشكل خاص أمر مؤلم في عراق اليوم، حيث دورالنساء تدهور بشكل ملحوظ. وإذا كان المعرض يصور هؤلاء النساء كشخصيات فعالة ومؤثرة فإني سألت يونس إن كانت تشعر بأنهن قد ناضلن كي تصبح أصواتهن مسموعة، أو أنهن وضعن خارج تاريخ العراق. ” أنا لم أقارب هذا المشروع مع تصور عام يرى أن النساء لم يستطعن الحصول على نفس الوظائف والفرص كالرجال. إنه ليس كيف أرى، أو كيف أريد أن أرى الأشياء.” وأضافت يونس أن اسم ماهر، يظهر في كل التقارير المتعلقة بالبناءات خلال أوائل عقد الثمانينيات من القرن الماضي. وقرأت يونس أنه خلال الحرب العراقية- الإيرانية، أرسل الرجال للقتال أو العمل في مجال الهندسة العسكرية أو المشاريع المعمارية، وهذا ما أعطى النساء أدوارا مهنية أكبر. تقول يونس:”أنا أتفق مع الرأي القائل بأن النساء لم يُكتب حولهن بما فيه الكفاية، لكن هذا ينطبق على الكثير من الأفراد والجماعات.. كل السرديات مهمة وأنا أكثر اهتماما بما يمكننا القيام به حين لا تكون الأمور قد كتبت بعد.”
*استمر المعرض مفتوحا حتى يوم 24 آذار (مارس) في مؤسسة دلفينا،لندن.