يثير معرض “سومر والنموذج الفكري الحديث” Sumer and the Modern Paradigm، في “مؤسسة ميرو” Fundació Miro بمدينة برشلونة، حوارا بين فنون بلاد الرافدين وأعمال فنانين محدثين، لا سيما في فترة ما بين الحربين العالميتين (1918-1939). ففيه تعرض أعمال فنانين مثل “خوان ميرو”، “هنري مور”، ألبرتو جياكوميتي”، و”ويلي باومايستر” جنبا إلى جنب مع قطع أثرية سومرية ومقتطفات من مجلات مصورة صدرت في تلك الفترة. من خلال وضع الأعمال الفنية والقطع الأثرية والمطبوعات في حوار مع بعضها البعض، يبين المعرض كيف وجد تشكيل حضارة الرافدين طريقه إلى المخيلة الفنية الغربية. كذلك يقدم المعرض عمل فيديو بعنوان “توفيق الألوان” Colour Matching (2017)، للفنان “فرانسيس أليس”، والذي أنتج بالأساس بتكليف من مؤسسة رؤيا بغرض العرض في جناح العراق في الدورة السابعة والخمسين من بينالي فينيسيا.
في هذا الحوار، تتحدث رؤيا إلى المدير الفني للمعرض “بيدرو أزارا” حول المعرض، وعما تستطيع القطع الأثرية إيضاحه فيما يخص الفن، والقيم الجمالية، والحداثة.
ما الذي استدعى تنظيم معرض “سومر والنموذج الفكري الحديث” في هذا التوقيت؟
قبل عامين، قام زميلي “مارك مارين” بزيارة “سون بوتير”، الستوديو الخاص بـ”خوان ميرو” في “بالما دي مايوركا”. وقد لاحظ صورا لقطع أثرية سومرية كان ميرو قصها من إحدى المجلات ولصقها على جدران الستوديو. كانت صورا لقطع أثرية ضمن مقتنيات المتحف العراقي في بغداد، وقد نقلت للعرض في متاحف أوروبية. كانت رسوم الجرافيتي على جدران ستوديو ميرو تطابق تلك الصور. وبدوره، طور الفنان رسوم الجرافيتي تلك إلى منحوتات. لقد اكتشفنا أن ميرو كان مولعا بالقطع الأثرية التي تنتمي لحضارة الرافدين. لكن ما من باحث أو مؤرخ فني فسر رسوم الجرافيتي والصور الفوتوغرافية في ستوديو ميرو على هذا النحو من قبل. عوضا عن ذلك، ظل النقاد يصنفون أعماله ضمن الأعراف التاريخية للفن الغربي، الذي يتضمن الآثار اليونانية الرومانية.
استلهم فنانو الحداثة أعمالهم من مختلف القطع الأثرية والمنتجات الاثنوجرافية المعروضة في المتاحف العالمية الغربية مثل المتحف البريطاني في لندن، ومتحف اللوفر في باريس. لماذا ركزت تحديدا على تأثير الفن السومري؟
في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، جرت عمليات تنقيب أثرية مهمة، مثل بعثة “ليونارد وولي” الاستكشافية لمقابر “أور” الملكية، واكتشاف “هنري فرانكفورت” للتماثيل الدينية المصنوعة من الحجر الجيري في “وادي ديالا”. مع ذلك، لم تتوفر للفنانين فرصة حقيقية للتعرف على القطع الأثرية السومرية التي كانت المتاحف الأوروبية تعمل على اقتنائها. فيما يتعلق بالعراق، عرضت مؤسسات مثل المتحف البريطاني ومتحف اللوفر قطعا أثرية أشورية مبهرة تتميز بالضخامة. غير أن تلك المتاحف لم تول الاهتمام نفسه للقطع الأثرية السومرية، إذ كانت أكثر فظاظة، وأصغر حجما، ومكسورة أو مشذبة غالبا. مع ذلك، فهذه البدائية الملحوظة في الفن السومري هي التي جذبت الفنانين.
يتضمن المعرض أيضا قصاصات من المجلات، والدوريات الفنية، وكتالوجات المعارض. ما هي أهمية تلك المطبوعات في وصل الفنانين مع العالم القديم؟
أغلب الفنانين لم يشاهدوا القطع الأثرية نفسها قط، وإنما عرفوها من الصور الفوتوغرافية والمقالات المنشورة في وسائل الإعلام. “وولي” وغيره من علماء الآثار أضفوا شعبية على اكتشافاتهم من خلال التغطية الصحفية المصورة من أجل تأمين رعاة من القطاع الخاص لبعثاتهم الاستكشافية. الفنان السوريالي الفرنسي “جورج باتي” كتب هو الآخر عن القطع الأثرية الخاصة بحضارة الرافدين في الدوريات الخاصة بالفن الحديث ونظرية الفن. في عام 1935، نشرت دورية “كاييه دارت” الفرنسية عددا بعنوان “فن بلاد الرافدين”، قرأه عدد كبير من الفنانين المحدثين مثل جياكوميتي. تضمن العدد صورا بالأبيض والأسود للمصور الفوتوغرافي الأرجنتيني “أوراسيو كوبولا”، التقطها لتحف فنية من معروضات اللوفر والمتحف البريطاني.
كيف ساهم التصوير الفوتوغرافي الحداثي في تلك الفترة في تشكيل طريقة تفسير الفنانين لهذه القطع الأثرية؟
صور كوبولا كان لها أثر مباشر على طريقة رؤية الفنانين لتلك القطع الأثرية وتفسيرها. لقد عُرف هذا المصور الفوتوغرافي بتصويره للحياة الحضرية، وكانت مقاربته للقطع الأثرية حديثة. لم يلتقط صورا كاملة للتماثيل، بل اختار صورا جزئية، مركزا على جوانب تشكيلية معينة، مثل شكل العيون. تكاد صوره أن تكون تجريدية: لا يستطيع الناظر أن يقول من أية ثقافة جاءت. الفنانون المحدثون فسروا القطع الأثرية من منظور زمنهم. لقد صنعت تلك القطع الأثرية كأغراض وظيفية، وكان لها في الأغلب خصائص سحرية وأهمية دينية. مع ذلك، تجدنا ننظر إلى تلك القطع الأثرية بنفس الطريقة التي ننظر بها إلى الأعمال الفنية. الفنانون المحدثون هم الذين صاغوا هذه العلاقة.
في رأيك، أية سمات في تلك القطع الأثرية السومرية ألهمت أولئك الفنانين أكثر من غيرها؟
الكثير من سمات القطع الأثرية ألهم الفنانين، بداية من التمثيلات التشكيلية وحتى النقوش والأساطير المسمارية. لقد أثنى النحات “هنري مور” على حالة السكون و”الطاقة الكامنة” في تماثيل المتعبدين السومريين وتماثيل “جوديا”، أحد حكام جنوب بلاد الرافدين في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد. وحاول “مور” أن يعيد خلق هذه السكينة في تماثيله نفسها، مستلهما الجوانب الجسمانية من تلك القطع الأثرية، مثل العيون الكبيرة وشكل الرؤوس. على جانب آخر، أبدع الشاعر الفرنسي “هنري ميشو” سلسلة من الكتابات التخيلية القائمة على النقوش المسمارية السومرية. وقد اعتبر ميشو النقوش المسمارية أحد أبكر الأمثلة على الكتابة في تاريخ الإنسان، وارتأى أن ذلك الخط اقترب للغاية من نقل ماهية الأشياء. أما الفنان الألماني “ويلي باومايستر”، فقد اهتم خصوصا بتصوير العنف والصراع في ملحمة جلجامش. كان ذلك بالنسبة له طريقة لفهم ما كان يحدث في ألمانيا في فترة ما بين الحربين وفي الحرب العالمية الثانية.
ما هي قطعتك المفضلة في معرض “مؤسسة ميرو”؟
لقد عرضنا الرسم الذي أنتجه جياكوميتي لرأس “جوديا”، جنبا إلى جنب مع القطعة الأثرية الأصلية الموجودة حاليا في اللوفر. مع ذلك، فنحن نعرف أن الفنان صنع نسخة بلاستيكية من ذلك الرأس، وأنه صادف القطعة الأثرية في صورة فوتوغرافية لـ”كوبولا” نشرت في “كاييه دارت”. وقد عرضنا، أيضا، الصورة الفوتوغرافية وصفحات من المجلة.
العمل الفني المعاصر الوحيد في المعرض هو عمل “فرانسيس أليس” الذي يحمل اسم “توفيق الألوان” (2017). وقد صور الفنان هذا العمل أثناء كان محاطا بقوت البشمركه في الأسابيع الأولى من المعركة على الموصل في تشرين الأول (نوفمبر) عام 2016. فلماذا وقع اختيارك على هذا العمل تحديدا؟
“توفيق الألوان” يظهر فنانا يحاول إنتاج عمل فني في مكان يبدو وكأنه موقع أثري، ولكنه، في حقيقة الأمر، ساحة حرب. لقد أبرز هذا العمل أسئلة كانت تراودنا بشأن العلاقة المعاصرة بين الفن والعالم القديم في بلاد الرافدين. كيف تلهم الثقافة القديمة الفنانين اليوم؟ هل لا يزال الشرق الأدنى يلهب مخيلاتهم؟ كيف يستطيع الفنانون المعاصرون الاشتباك مع المنطقة وحروبها الجارية؟
البعثات الأثرية في العشرينيات والثلاثينيات ازدهرت عندما كان الشرق الأدنى مقسما إلى مستعمرات ومناطق خاضعة للانتداب الغربي. كيف استجاب فنانو تلك الفترة لهذا السياق السياسي؟
قليل من الفنانين الذين اشتبكوا مع القطع الأثرية كانوا على دراية بأن تلك الاكتشافات جاءت نتيجة للاستعمار. وأقل منهم أولئك الذين رأوا في تلك القطع الأثرية رموزا للقهر. لقد ألمح بعض الكتاب، مثل (جورج) “باتاي” والسوريالي الفرنسي “ميشيل ليريس” إلى ذلك الأمر في كتاباتهم. لكن من خلال بحثنا، لا يبدو لنا أن فنانين مثل جياكوميتي أو مور وضعوا ذلك في اعتبارهم.
فترة ما بين الحربين ونهايتها المتمثلة في اندلاع الحرب العالمية الثانية أدت إلى بروز أسئلة أساسية بشأن التعامل مع الفن والقطع الأثرية في فترات الصراع. ما الذي يمكن أن نتعلمه من ذلك ونطبقه على عالم اليوم؟
بعد الحرب العالمية الثانية، ظهر على السطح العديد من النقاشات والأسئلة حول حماية القطع الأثرية في أوقات الصراع. إلى أي حد يجب علينا ترميم القطع المفقودة أو المسروقة؟ هل يجدر بنا أن ننتج مستنسخات منها؟ هل علينا أن نحافظ على بعض من مظاهر التخريب التي طالتها؟ لقد تعرضت مدينة وارسو إلى قدر هائل من الدمار عام 1944. بعدها، أعيد بناء المدينة القديمة بالكامل في شكلها الحضري والمعماري التاريخي. وبدأت فرانكفورت مؤخرا في إعادة بناء منطقة “دوم-رومر” في مركز المدينة القديم. أنا لست راضيا عن هذا المنهج، لأنه يضع الأولوية للصورة التاريخية للمدينة، في حين يغض الطرف عن عوامل أخرى. في روتردام، قرروا إنشاء مدينة جديدة، حديثة بالكامل. مثل هذه الأسئلة المتعلقة بالتعافي بعد الصدمة قائمة في عراق اليوم. إن الأطلال تساعدنا على إدراك أن ما نشيده لن يعيش إلى الأبد، وتذكرنا أننا، كبشر، قادرين على ارتكاب عنف هائل وفظاعات رهيبة. وفي الوقت نفسه، تظهر لنا أن الفن نفسه زائل، ليس مخلوقا للخلود.
يستمر معرض “سومر والنموذج الفكري الحديث” حتى 21 كانون الثاني (يناير) 2018، في “مؤسسة ميرو”، “بارك دي مونتجويك”، 08038 برشلونة.