كان الأدب أحد المواضيع السّبعة في الجناح العراقيّ الذي جاء تحت عنوان “عتيق” في معرض البندقيّة الدوريّ السابع والخمسين (بينالي). وبناءً عليه أجرت مؤسّسة رؤيا حواراً مع الشاعر الأوسترالي من أصل عراقيّ أديب كمال الدين (من مواليد العام 1953 في محافظة بابل) الذي جمعت أعماله ما بين الروحانيّة الصوفيّة والشاعريّة في آنٍ معاً، مركّزة غالباً على “الحَرْف” كَمُحَفِّزٍ للخيال. نشَر كمال الدين تسع عشرة مجموعة شعريّة بالعربيّة والإنكليزيّة، وقد تُرجِمت أعماله إلى لغات كثيرة منها الانكليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والفارسيّة والإسبانيّة والأورديّة، كما شكّلت مادّة لدراسات وأبحاث جامعية (رسائل وأطروحات) في الكثير من الجامعات العربيّة، وصدرت حولها مجموعة من الكتب النقديّة لشرح معالمها الجماليّة. حاز جائزة الشعر الكبرى في العراق (1999). نُشِرت قصائده ضمْن مختارات “أفضل القصائد الأوستراليّة” للعام 2007 (منشورات بيتر روز ed. Peter Rose) و”أفضل القصائد الإوستراليّة” للعام 2012 (منشورات جون ترانتر ed. John Tranter)، وفي المجلّة الأدبيّة الأوسترليّة ساوثرلي (Southerly) ، وفي مجلّة مينجِن (Meanjin) وعند نادي قراءة الشعر فراندلي ستريت بوتس (Friendly Street Poets) (شعراء الشارع الوَدُودون). وكانت قصيدة كمال الدين “أنتَ يا مَنْ تُبحِر وحيداً” قد اختيرت لترافق أحد الأعمال الفنّية في المعرض، وقد تُرجِمت ونُشِرت في الكتيّب الخاص بمعرض “عتيق”.

قدري الفنّيّ الذي ناقشَتْه أكاديمياً في رسائل الدكتوراه والماجستير عشر جامعات في العراق والجزائر وإيران وتونس، وصدر أحد عشر كتاباً نقدياً عنه مع عدد كبير من الدّراسات النقديّة لشرح معالمه الجماليّة، كما تُرجِمَتْ قصائده إلى الإنكليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والأورديّة والفارسيّة والإسبانيّة.

للأدب في العراق جذور متعدِّدة، من الملاحم القديمة إلى الشِّعر الإسلامي وحكايات الجِنِّ والعفاريت والتقاليد البدويّة والمقاهي والموسيقى والحياة المعاصِرة في المدن. كيف تجد صوتك الخاص كشاعر؟
الشعر كما أفهمه هو محاولة فكّ شِيفْرة الحياة، ومحاولة فهم أسرارها العميقة والزائلة، الجميلة والساخرة، ومحاولة التكيّف مع مِحَنها التي لا نهاية لها. وهو انعكاس حيّ لكلّ ما هو حيّ في الحياة. الشعر شرارة تُومِض في العقل، في مناطقه الأشدّ عمقاً وظلمةً، هو يبدأ تفاعلاً مع دمعة حَرّى أو موقف خطير أو كلمة جارحة أو مشهد مثير أو أغنية عذبة أو ذكرى مؤلمة. والشاعر الحقيقيّ قادِرٌ على تَلَقُّف هذه الشَّرارة المُبارَكة أو الملعونة، الجريحة أو المعذَّبة، بحسب الحالات، لِيُشعل بها ذاكرته الأشبه بحطبِ جاهزٍ للاشتعال، فتنثال عنده الصور والكلمات انثيالاً.
فنّياً كان الحرف وسيلةً لتميّزي الشعريّ بل هو هويتي الإبداعية التي أطلقتُ من خلالها ولم أزل صرخاتِ روحي وأحلامَها عبر تِسْعَ عشرة مجموعة شعرية بدأتها العام 1976 بمجموعة تفاصيل (الدار الحديثة، النَّجَف، 1976) واستمرّت حتى هذه العام مع صدور مجموعتي حرف من ماء(منشورات ضِفاف، بيروت، 2017).

أنا أرى أنّ للحرف العربي ما يمكن تسميته بـ”المستويات”. فهناك المستوى التشكيليّ والقناعيّ والدلاليّ والترميزيّ والتراثيّ والأسطوريّ والروحي والخارقيّ والسحريّ والطلسميّ والإيقاعيّ والطفوليّ. ومن خلال كتابة المئات من القصائد الحروفيّة التي اتخذت هذه المستويات دليلاً واتخذت الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع، وأداةً وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموز ودلالات وإشارات تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها، عبر هذا كلّه أخلصتُ للحرف عبر عقود من السنين حتى أصبح قَدَري الذي لازمني وسيلازمني حتّى النهاية. هكذا إذن يمكنني أن أقول: أنا حَرْفٌ، إذن أنا شاعر!

أقدم الكتابات في التاريخ تعود إلى بلاد بين النهرين، لكن عراق اليوم يعاني من نسبة أمّيّة تبلغ 20 في المِئة تقريباً. ما الدور الذي يجب أن يلعبه الكاتب أو الشاعر في عراق اليوم؟
على الشاعر في كل مكان في الكون، وليس في العراق فقط، أن يكون مرآة عصره الحقيقيّة وإلّا تَحَوَّل شاهدَ زور. عليه أن يتناول مشاكل الإنسان الكبرى كالحبّ والوحدة والحرب والموت والجوع والجهل مركّزاً على هذه المشكلات ليُلقيَ الضوء على أعماقها السّحيقة وتفاصيلها التي لا تُحدّ، عليه أن يشير إلى مكمن الخلل الهائل حيث الإنسانية لا تجيد الآن، وللأسف، سوى لغة الكراهيّة والعنصريّة والعنف والتطرّف والإقصاء، بعيداً عن لغة الأمل والمحبّة والجمال والحقّ في التعليم والحبّ والحياة.
الشعر أولاً وأخيراً رسالة جماليّة خالصة، ومن خلف ستار الجمال الشفيف والرائق والمدهش تظهر رسالة الشعر الروحيّة التي هي إعانة الإنسان على البحث عن الجانب المُنير من الحياة بشكل عميق وحقيقيّ ومساعدته بقوّة في محاربة الظلام والتخلّف والجهل بكلّ أشكاله وأنواعه ومسمّياته.

في قصيدة “البحر منفرداً” التي ترجمناها، تشبِّه “الحَرْف” بسفينة عابِرة، و”النقطة” على الحروف “بِبَحْرٍ جديد لا يسهل على القراصنة الإبحار فيه”. هل يمكنك الاستفاضة قليلاً في شرح هذه الصور؟
بمعزل عن تحليل قصيدة معيّنة لي، ذلك أن استعمالي للحرف شديد التنوُّع والاختلاف والغنى، أقول: إن النقطة بلغة التصوّف هي الكَيْنونة ومركز الكون والعالم الأكبر. هذه هي النقطة كرمز صوفيّ. لكنني انطلقتُ إلى استعمالات أخرى ومتعدّدة للنقطة ولم أكتفِ بهذا الترميز فقط، فبدت النقطة في الكثير من قصائدي مركزاً للقلب ومركزاً للروح ومركزاً للجسد ومركزاً للرؤيا. إنّ ما يميز تجربتي الحروفيّة عن التوظيف الحروفيّ الصوفيّ القديم هو أنّ هذا التوظيف كان ذهنياً على الأغلب، وأحيانا طلسمياً لا يفهمه إلّا خواصّ الخواصّ. وقد حاولتُ جاهداً أن أجعله شعرياً عبر الصورة المجسَّدة، ذلك أنّ الذهنيّة في رأيي هي أشدّ أعداء الشعرية ضراوةً. وحاولتُ أيضاً أن أجعل استيعاب هذا الاشتغال مُشاعاً للكلّ مِن دون أن أفقد الخواصّ ولا خواصّ الخواصّ. وفي ذلك يكمن التحدّي الجماليّ، الشعريّ والفلسفيّ، في تجربتي الحروفيّة. أما الحرف فهو حامل معجزة القرآن الكريم الذي هو عِلْم الأول والآخِر.

يبدو أنَّك بنيت عالماً من الحروف، فكيف تتخيَّل وجود هذا العالم بشكله الملموس؟
الحرف، كما ذكرت قبل قليل، هويتي الروحيّة والفنّيّة والجماليّة والبَوْحِيّة (من البَوح) والسرّية. وهو في شعري يظهر بِصُوَرٍ شتّى وهيئات لا تُحصى، فهو العاشق والمعشوق، والملك والصعلوك، والدليل والتائه، والحكيم والضائع، والزاهد والشهواني، والعارف والخاطئ، والوليّ والمُهَلْوِس، والذاكر والناسي، والمتأمّل والمُعَرْبِد، والشيخ والطفل، والرجل والمرأة، والصوت والصدى، والروح والجسد، والسلام والحرب، والجلّاد والضحيّة، والبعيد والقريب، إلخ.

تُرجِمَتْ قصائدك إلى عدّة لغات. ما هي التحدِّيات التي تواجه ترجمة الشعر في رأيك؟
إن عملية الترجمة ليست بالسهلة أو اليسيرة، وينبغي للمترجم الناجح أن يمتلك عدّة مؤهِّلات أوّلها تمّكنه من فهم أسرار وتفاصيل اللّغَتَيْن، المنقول عنها والمنقول إليها. ثمَّ تفاعله بشكل إيجابي مع النصّ المترجم وإحاطته بظاهره وباطنه. وكذلك تمسّكه بمبدأ الأمانة في الترجمة فلا يغادره إلّا مضطراً لِسَببٍ لغويّ أو جماليّ، مع تمسّكه بمبدأ الوضوح والسلاسة واللطف في كتابة النصّ في اللغة الجديدة المنقول إليها بعيداً عن التقعير والارتباك والالتباس. ويحتاج المترجم الناجح إلى سعة اطِّلاع في تخصّصه. فلترجمة الشعر مثلاً ينبغي على المترجم معرفة مُختلف أساليب الشعر عالمياً، وكذلك معرفة حقيقيّة في النواحي الشّعريّة في اللغتَيْن بما يمكِّنُه من اختيار المفردة الأقرب إلى روح النصّ المترجَم وكتابتها على نحو يحفظ لها أكبر قدر من روحها الأصلية وأكبر قدر من الشّعريّة فيها، ولذا قيل إنّ أفضل من يترجم الشعر هو الشاعر، وهذه حقيقة لا لبسَ فيها!

أؤكّد، بشكل عام، في ترجمتي لشعري أو لشعر سواي على الأعمال التي تعتمد في حضورها الإبداعي على “الثيمة” أكثر من اعتمادها على مفارقات اللغة والتلاعب بالألفاظ. ذلك أن “الثيمة” يمكن أن تجتاز صعوبات الترجمة بنجاح ويبقى العمل محتفظاً بزبدة جدواه الفنّيّة. أما العمل الفنّيّ الذي يعتمد في حضوره على مُفارقات اللغة فلا سبيل البتَّة إلى ترجمته.

البحر منفرداً

(1)
أيّها الحرف
سيحاربك القرصان الأحمر،
القرصان الذي قوّض العرشَ وسلّمه للرعاع،
لأنّ في قلبكَ موجة لأقمار الطفولة.
وسيحاربك القرصان الأزرق،
القرصان الذي أدخل كلَّ شيء في دوّامة الموت
بعد أن قتل إخوته
وباعَ أبناءه في سوق العبيد،
لأنّ في قلبكَ موجة من شموس.
وسيحاربك القرصان الأصفر:
قرصان المجانين والمخنّثين وآكلي جثث الموتى.
وسيحاربك القرصان الأسود:
قرصان الكَفَرة الفَجَرة.
وسيحاربكَ قرصان الريح
ذاك الذي يغيّر وجهته
كلّما غيّرت الريحُ عنوانها.

(2)
نعم
ذلك مجدك أيّها الحرف.
فالقراصنةُ كلّهم يجيدون كراهيتك
لأنّكَ اقترحتَ نقطةً للجمالِ والحبّ
وحاولتَ أن تؤسس
– ولو في الخيال-
بحراً جديداً
لا يجيد القراصنةُ الإبحار فيه.
نعم،
ذلك مجدك
أيّها المبحر منفرداً
إلاّ من نقطته: خشبته العارية التي يتقاذفها الموج
إلى أبد الآبدين.