في الثاني من ديسمبر، شاركت مؤسسة رؤيا في رعاية العرض العراقي للفيلم العراقي الوثائقي”أوديسا عراقية” (2014) والذي فاز ببعض الجوائز. يرصد الفيلم رحلة ملحمية لأسرة السينمائي سمير نقاش، بعد مغادرتها العراق قبل ما يزيد على خمسين سنة، لتتشتت الآن في أنحاء العالم. سمير نقاش (مواليد عام 1955 بالعراق) مخرج وكاتب ومنتج سويسري عراقي. من أفلامه الوثائقية الأساسية بابل 2 (1993) الذي وثَّق فيه صعود الموسيقى الإلكترونية والثقافة المدينية في أوساط الجيل الثاني من المهاجرين في زيورخ، أما فيلم انسوا بغداد (2002) فتناول قصة اليهود العراقيين المقيمين في المنفى. في حواره التالي مع “رؤيا”يتكلم عن “أوديسا عراقية” وعن فيلمه الروائي المنتظر بغداد في ظلي.

Still from Iraqi Odyssey: A Family picnic outside of Baghdad in 1959, one year after the Revolution. Courtesy of Dschoint Ventschr Filmproduktion.

من فيلم أوديسا عراقية: نزهة أسرية خارج بغداد سنة 1959، بعد سنة من الثورة. بإذن من دشوينت فينتشر فيلم برودكشن Dschoint Ventschr Filmproduktion.

تعمل في السينما منذ ثلاثين عاما. شهدت تلك الفترة موجات عديدة من الهجرات العراقية. لماذا قررت في هذا التوقيت أن تخرج فيلما عن الشتات العراقي وعن أسرتك، أعني في السنين الأخيرة؟
بدأت العمل على الأوديسا العراقية قبل وقت طويل من إطلاقه في 2014. كان مشروعا طويل الأمد استغرق أكثر من عشر سنين. خطرت لي الفكرة عام 2003، بعد فيلمي الوثائقي انسوا بغداد (2002) عن الجاليات العراقية اليهودية التي باتت تعيش في إسرائيل. كنت أتساءل عما تعنيه الهوية العربية، وهل هي مرتبطة بدين، هو الإسلام؟ أم أنها ثقافة ولغة ومجموعة من التقاليد التي يتبناها كل من يعيش في العالم العربي؟ في ثنايا عملي على الفيلم نال مني اليأس. وفكرت: “لماذا أخرج فيلما عن اليهود العراقيين لا فيلما عن عماتي وأعمامي المنتمين إلى الجيل نفسه؟ فأسرتي ـ شأن يهود العراق ـ تشتتت في العالم. وتجربتنا في الشتات العراقي مثل تجربتهم.

ما التحديات التي اعترضتك وأنت تحكي قصة أسرتك؟
التحدي الأكبر تمثَّل في إقناع أفراد أسرتي بأن يكونوا جزءا من الفيلم. فالعراقيون والعرب لا يألفون رؤية أنفسهم أمام الكاميرا. لقد كان لجميع أفراد أسرتي نشاط سياسي في شبابهم. ولم يرغبوا في أن يظهروا كمن ينشروا غسيلهم الوسخ على الملأ. كان عليّ أن أجعلهم يفهمون أنني أحترم رغباتهم، ولكنني في الوقت نفسه راغب في سؤالهم عن تفاصيل حياتهم. لا أقول إنهم كانوا خجلين، ولكنهم كانوا متمنعين، ومنهم من شعر بالخوف. كانوا غير واثقين من أنني سوف أمنحهم بالفعل منصة أمينة يروون من خلالها قصتهم وتاريخ العالم الذي جئنا منه. والنتيجة أن عملي فرّق بين أفراد الأسرة في بعض الأوقات، لكنه في النهاية قرَّب بينهم.

ما هو أغرب اكتشاف توصلت إليه يتعلق بأحد أفراد أسرتك وأنت تعمل على الفيلم؟
كان أكثر ما أدهشني أن أعرف أن جدي كان يتبنى رؤية ليبرالية للعالم من خلال دراساته الإسلامية في الحوزة، وهي المعهد الديني في النجف. لم يكن ذلك رد فعل لتعليمه الديني، بل اعتناقا له. ففي عشرينيات القرن الماضي جاء كثير من أبناء جيله من شيعة لبنان وأفغانستان وباكستان والهند للدراسة في مدينتي النجف وكربلاء المقدستين فباتوا نتيجة لدراستهم أكثر ليبرالية. والمثير في الأمر هو وجود شبكة شيوعية قوية أيضا. كانوا يحترمون مختلف الأديان والمدارس الفكرية، ويؤمنون بالعدالة الاجتماعية والمساوة بين الرجال والنساء. ولم يكن جدي يتدخل في اختيارات أبنائه وبناته العملية أو العاطفية.

Still from Iraqi Odyssey: A family photo in front of the Roman ruins in Baalbek, Lebanon, 1967. Courtesy of Dschoint Ventschr Filmproduktion.

من الأوديسا العراقية: صورة عائلية أمام أطلال بعلبك بلبنان سنة 1967. بإذن من دشوينت فينتشر فيلم برودكشن Dschoint Ventschr Filmproduktion.

Still from Iraqi Odyssey: Sabah Jamal Aldin, Samir's uncle in his office holding an illustrated copy of Homer's epic, the Odyssey. Courtesy of Dschoint Ventschr Filmproduktion.

من الأوديسا العراقية: صباح جمال الدين، عم سمير في مكتبه ممسكا بنسخة مصورة من أوديسا هوميروس. بإذن من دشوينت فينتشر فيلم برودكشن Dschoint Ventschr Filmproduktion.

لتصوير “الأوديسا العراقية”، رجعت إلى العراق للمرة الأولى منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. ما الذي تغير في رأيك؟
غياب المجتمع المدني مشكلة ضخمة لاحظتها في العراق. كما يتبين في فيلمي، كانت في بغداد في يوم من الأيام رؤية لمجتمع حديث. كانت الأفكار منتشرة عن تأسيس الخدمات العامة، ونظام الرفاه والإجراءات الرامية إلى عبور الفجوة بين الأثرياء والفقراء. واستمرت هذه الرؤية برغم دكتاتورية صدام وحتى نهاية الحرب الإيرانية العراقية، ولكنها ضاعت في فترةالحصار. اليوم حينما أرى شخصا ما يكنس شارعا في بغداد، أهتز لمجرد أنه يفعل شيئا ما من أجل الناس، بينما الموارد شديدة الندرة ومستويات الفساد شديدة الارتفاع. كل المتنزهات والحدائق الجميلة اندثرت، وارتفعت درجة حرارة المدينة عشر درجات على الأقل عن ذي قبل.

فيلم “الأوديسا العراقية” يتعامل مع أحداث وحركات تاريخية كالصراع بين حزبي البعث والشيوعي، وغزو العراق عام 2003 والذي قسم العراقيين حتى يومنا هذا. في غياب تاريخ متفق عليه جماعيا، كيف تحاول كسينمائي أن تظل موضوعيا؟
لا أعتقد أن الموضوعية ممكنة في الإبداع السينمائي. لذلك أعمد في ثنايا الفيلم إلى توثيق صنع الفيلم نفسه، وأحضر فيه بوصفي مخرجا له. أعرض تدخلي على المشاهد.

Still from Iraqi Odyssey: Archival footage of a meeting of the Muqtada-Militia in Baghdad (background) Samir's half-sister Souhir (foreground). Courtesy of Dschoint Ventschr Filmproduktion.

من الأوديسا العراقية: صورة أرشيفية للقاء ميليشيا مقتدى في بغداد (في الخلفية) وسهير أخت سمير غير الشقيقة (في المقدمة). بإذن من دشوينت فينتشر فيلم برودكشن Dschoint Ventschr Filmproduktion.

Still from Iraqi Odyssey: Samir's father Riad (third from right) with his friends and his siblings Sabah and Samira (the bottom row) in southern Iraq at the end of the '30s. Courtesy of Dschoint Ventschr Filmproduktion.

من الأوديسا العراقية: رياض والد سمير (الثالث من جهة اليمين) مع أصدقائه وشقيقيه صباح وسميرة (في الصف السفلي) في جنوب العراق أواخر الثلاثينيات. بإذن من دشوينت فينتشر فيلم برودكشن Dschoint Ventschr Filmproduktion.

كيف كان رد فعل الجمهور أثناء الافتتاح العراقي في بغداد؟ هل طرحوا أي أسئلة صعبة أو مثيرة؟
كان الحضور عاطفيا للغاية أثناء المشاهدة، حتى لقد بكى بعض الحاضرين. اندهشت من قلة ما يعرفه الشباب العراقيون عن تاريخ العراق. هذا جيل أصغر سنا ولد أثناء الحرب الإيرانية العراقية وفي التسعينيات، ويعتقدون أن العراق كان دائما ذلك البلد المشتت المتزمت دينيا.

Samir addresses the audience at the Iraqi Premiere of Iraqi Odyssey, at the National Theatre in Baghdad. The event was co-sponsored by the Ruya Foundation and the Swiss Embassy in Jordan, and supported by the Ministry of Culture.

من الأوديسا العراقية: سمير أمام الجمهور في افتتاح الفيلم العراقي، في المسرح الوطني ببغداد. أقيمت الفعالية برعاية مؤسسة رؤيا والسفارة السويسرية في الأردن، وبدعم من وزارة الثقافة.

Still from Iraqi Odyssey: Director Samir and his cousin Jamal Al Tahir in front of the Kremlin in Moscow. Courtesy of Dschoint Ventschr Filmproduktion.

من الأوديسا العراقية: المخرج سمير وابن عمه جمال الطاهر أمام الكرملين في موسكو. بإذن من دشوينت فينتشر فيلم برودكشن Dschoint Ventschr Filmproduktion.

في “بابل 2” (1993) وثقت صعود الثقافة المدينية في أوساط الجيل الثاني من المهاجرين في سويسرا، وهي الثيمة التي رجعت إليها في أفلام تالية. ما الذي يجذبك في الثقافة المدينية، وموسيقى الراب بصفة خاصة، كوسيلة لحكي القصص عن المنفي والهجرة؟
يوثق بابل 2 حياة الجيل الثاني من المهاجرين في سويسرا الذين كانوا يستعملون تقنيات رقمية مثل العينات sampling لإنتاج نوع جديد من الموسيقى. كان فيلما شخصيا، كنت أتكلم عن نفسي وعمن حولي من الناس. فقد نشأت في شبابي بين ثورتين في ثقافة البوب. في الأولى كانت موسيقى البوب البيضاء التي تسلّعت تسليعا شديدا بحلول نهاية السبعينيات. ثم دخل الراب المشهد كنمط من الثقافة المضادة. وهالني تركيز الراب على الكلمات إنتاجا للمموسيقى، وعلاقته بالثورة. لعل هذا يرجع إلى أن الكلمات كانت مهمة في أسرتي، إذ كان أعمامي وعماتي محبين للشعر. ثم اكتشفت أن أولئك الفنانين يستعملون تسهيلات رقمية جديدة، مثل آلات النقر والعينات، في الوقت الذي كنا فيه كسينمائيين ننتقل أيضا إلى الرقمي. كنت أعرف أن أمرا مهما يجري، وكنت منجذبا إليه.

فيلمك الجديد “بغداد في ظلي” يتناول مقهى عراقيا في لندن. لماذا اخترت هذه المدينة، على الرغم من وجود جاليات عراقية ضخمة في السويد وألمانيا؟
على الرغم من أن بريطانيا لا تحب الكلام عن تاريخها الاستعماري ، فإن بعض الروابط القوية تظل قائمة بين إنجلترا والعراق. لندن في رأيي مدينة عراقية. أسمع اللهجة العراقية أينما أكن هناك، بالرغم من أن هذا قد يكون تفكيرا تفاؤليا. في لندن كثير جدا من المقاهي العراقية. سألني كل من قرأوا السيناريو من المقيمين في لندن “أين مقهى أبو نواس هذا؟” ولم أقل لأي منهم أين يوجد لأنه خيالي. المضحك أيضا أنني وجدت كتبا كثيرة فيها المزاج الذي أريد تصويره.

ما النصيحة التي توجهها للسينمائيين الشباب في العراق؟
لا يمكنك أن تتعلم عمل الأفلام إلا بعمل الأفلام. مثل قيادة السيارة. أنا لا أزال أتعلم كيف أكون مخرجا. وقد أصبح مخرجا جيدا في غضون عشرين سنة.