في قصيدة كتبها في المنفى، يشبِّه برتلوت بريخت، الذي هرب من الاضطهاد في ألمانيا عام 1933 بسبب مسرحياته وكتاباته المناصرة للشيوعية، عمله بعمل المراسل الصحفي:

الكلمات التي يتحدثون بها لبعضهم البعض، أنقلها أنا
ما تقوله الأم لابنها
ما يخبر به الموظف رئيسه
ما ترد به الزوجة على زوجها
كل كلمات التوسل، الأمر
الخنوع، التضليل
الكذب، الجهل
الانتصار، الأذى…
أنقلها أنا جميعا
(“أغنية الكاتب المسرحي” 1934-1936)

من ناحية، يبدو لنا صحفيا ينقل report “ما تقوله الأم لابنها”. من ناحية أخرى، ككاتب مسرحي، يكشف الفروق الدقيقة في الخطاب “التوسل، الأمر”، وفي غير المرئي “التضليل، الكذب، الجهل”. تكشف السطور قناعة بريخت أن الفن عليه أن يلعب دوره في أوقات الأزمة.

Bertolt Brecht and Helene Weigel, in exile in Lidingö, Sweden, 1939. Akademie der Künste, Berlin, Bertolt-Brecht-Archiv FA 07/145, Photographer: unknown

برتولت بريخت وهيلين ويجل، في المنفى في جزيرة “ليدينجو” السويدية، 1939. “أكاديمي دير كونست”، برلين، أرشيف برتولت بريخت FA 07/145، المصور مجهول.

مع ذلك، تظل هذه الأسطر إشكالية، إذ كيف لشاعر في المنفى أن يتمكن من نقل الخبر بدقة من على الأرض؟
قصيدة بريخت جزء من معرض كبير عنوانه “حالات الغموض: الاستراتيجيات الفنية في حالات الطوارئ”، في “أكاديمي دير كونست” ببرلين. يتخذ المعرض أزمة الهجرة الحالية نقطة انطلاق، ثم يستكشف مفهوم “الغموض” في المواقف القصوى، كما يعبر عنها فنانون مثل منى حاطوم، الذي يستكشف عملها المعنون “كابان إيكي” (2016) مفهوم الاضطراب والوقوع في الشرك عبر أعمال نحتية، ومثل “ريتشارد موس”، الذي وثق الصراع في شرق الكونغو باستخدام تقنية التصوير الملون بالأشعة تحت الحمراء، كذلك يستند المعرض على خبرات الهروب والمنفى التاريخية، ويتضمن موادا أرشيفية من إبداعات كتاب وفنانين هربوا من ألمانيا بعد صعود نظام النازي عام 1933.

Mona Hatoum, Kapan iki, 2012 (detail), Mild steel and hand-blown glass. Courtesy Galerie Max Hetzler, Berlin | Paris © Mona Hatoum

منى حاطوم، “كابان إيكي”، 2010 (تفصيلة) فولاذ وزجاج. بإذن جاليري “ماكس هيتسلر”، برلين/ باريس. الحقوق لمنى حاطوم.

يقول “يوهانس أودينتال” الذي شارك “أنكي هيرفال” في الإدارة الفنية للمعرض، بالتعاون مع “كاترينا جريجوس” و”ديانا فيكسلر”، “إنه معرض للفن المعاصر، لكننا أضفينا عليه مزيدا من العمق بالرجوع إلى تاريخنا في ألمانيا، في الفترة بين عامي 1933 و1945، حين أجبر أهم فنانينا على مغادرة البلاد بسبب الاضطهاد وغياب العدالة”. تظهر في المعرض مسودات لقصيدة كتبها بريخت عن الهجرة، وكذا آخر خطاب خطه الفيلسوف والناقد “فالتر بنيامين” لصديقه “تيودور أدورنو”، قبل انتحاره لاجئا في إسبانيا.

Passport issued to Walter Benjamin, Berlin Grunewald, 10 August 1928 Photo: Nick Ash © Akademie der Künste, Berlin

جواز سفر صدر لفالتر بنيامين، “برلين جرونوالد”، 10 أغسطس 1928. تصوير :نك آش. © “أكاديمي دير كونست”، برلين.

كذلك اختير عمل آكام شيخ هادي المعنون “مشروع النطاق” (2015) ليعرض بين الأعمال الفنية المعاصرة. حيث توثق سلسلة الصور الفوتوغرافية لبعض الأقليات العراقية التي هُجرت على يد داعش في 2014. وقد عُرضت السلسلة للمرة الأولى بإشراف مؤسسة رؤيا في الجناح الوطني العراقي في الدورة السادسة والخمسين من بينالي فينيسيا. في الصور يقف لاجئون مسيحيون وكاكائيون وأيزيديون، وكذا لاجئون من مدينة كوباني السورية، في وضعيات تبدو وقورة، محاطين بحبال من النسيج الأسود.

يفصل بين شيخ هادي وبين بريخت قارتان وثلاثة أرباع قرن تقريبا. مع ذلك فإن المقارنة التي يطرحها المعرض تلقي الضوء على قضايا مفتاحية تخص ممارسة الفن في أوقات الأزمة والصراع.
لقد وثَّق شيخ هادي، الذي درس التصوير الصحفي، مخيمات النازحين داخليا في العراق، كما وثق الصراع مع داعش. لكن “مشروع النطاق” لا يُظهر العنف أو المعاناة الإنسانية بشكل مباشر. بدلا من ذلك، يصور خطرا غير منظور من خلال النسيج الأسود، أو “النطاق”، الذي يحيط بالشخص أو يتلوى بالقرب منه في الصورة، موحيا باختناق أو موت بطيء، إذ سوف يضيق الخناق أكثر فأكثر.

كما الحال مع بريخت، يشبه الفنان هنا مراسلا صحفيا، لكنه تقاريره التي شهدها بعينيه تتجاوز القصص التي يكتبها الصحفيون. يقول أودينتال “صور آكام للنازحين داخل العراق تظهر وضعا سياسيا ما كان ليظهر لولاها. إنها شهادة قوية. إذ يقدم الفنان مستوى من التعبير لا يمكن للإعلام وحده أن يغطيه”.
موضوع الهجرة الذي يقع في القلب من المعرض، يظهر أيضا في أعمال الفنانيْن. يشرح أودينتال “بين عامي 1933 و1945، أُجبر أهم فناين ألمانيا على مغادرة البلاد. تخلوا عن كل شيء. في الوقت نفسه، طوروا عملية إبداعية جديدة للتعبير عن وضعهم الفادح”.

16590575047_37a0645cb8_o

آكام شيخ هادي، كوباني، من سلسلة “مشروع النطاق”، 2014-2015. إهداء من الفنان.

إبان إقامته في المنفى، استمر بريخت في إنتاج كتابات معادية للفاشية ومناصرة للشيوعية بضراوةـ من بينها مجموعة شعرية كتبها وهو في بلدة سفندبورج الدنماركية، بين عامي 1933 و1939. وتكشف قصائد مثل “في العصور المظلمة” قلقه تجاه من أجل الحفاظ على صوت نشط ومنخرط يعارض صعود الفاشية في ألمانيا:

لن يقولوا: كانت العصور مظلمة
سيقولون: لماذا صمت شعراؤهم

قصائد كهذه توضح كيف ظل بريخت قريبا من وطنه من الناحية الثقافية، حتى وهو في المنفى على جزيرة “فين” في الدنمارك، فيما يصفه هو بأنه “لجوء تحت سقف دنماركي من القش”.

28398339734_4037613952_k

على النقيض، لم يغادر شيخ علي العراق، لكن الهجرة والمنفى ظلت هواجس أساسية في مسيرته كفنان. يوضح شيخ هادي: “كلمة ‘المنفى’ كانت قديما تعني إجبار المرء على الحياة في مكان واحد، لا يستطيع مغادرته. اليوم، أوطاننا نفسها يمكن أن تصبح سجنا، مثلما سيشهد الكثيرين ممن يعيشون في مناطق الصراع في أرجاء العالم”.
بالإضافة إلى الشتات الداخلي، شهد “شيخ علي” موجات من الهجرة إلى خارج العراق، حتى من بين أقرانه. وفقا لدراسة للمنظمة الدولية للهجرة عام 2013، 99% من الشباب في جنوب العراق و79% في كردستان العراق يتمنون الهجرة، مؤكدين على أن البطالة والأمل في الحرية والأمن من بين أهم أسبابهم.

هذا الأمر يتناوله الفنان في سلسلة جديدة من الأعمال الفوتوغرافية، تحمل اسم “الوطن، المنفى”، عهدت بها إليه مؤسسة رؤيا. يضع شيخ هادي موضوعات صوره داخل محيط من أسلاك شائكة رُبطت إليها طائرات ورقية ملونة. بذلك، يشبه الفنان الهجرة بالطائرات الورقية “التي تحلق في السماء… لكن حركتها لا هي تلقائية ولا حرة. إذ دائما ما ترجع إلى ديارها”.

شأن بريخت، يقدم شيخ هادي تعريفا غامضا ومعقدا للمنفى، لا يمكن أن تنقطع فيه صلة الإنسان بوطنه، برغم البعد المادي.

يستمر معرض “حالات غامضة” حتى 15 يناير 2016، وتقام خلاله سلسلة من الحوارات وورش العمل في “أكاديمي دي كونست”.

*Manheim, Ralph and John Willet, editors: Bertolt Brecht: Poems 1913-1956 by Bertolt Brecht (London : Methuen, 1979 1987)