يعيش صادق كويش الفراجي (مواليد بغداد عام 1960) ويعمل في آمرسفورت بهولندا. درس التصوير الزيتي والطباعة، وينتج أيضا أفلام الرسوم المتحركة والكتب الفنية. غادر الفراجي العراق في تسعينيات القرن الماضي، ليستقر به الامر في هولندا. عندما كان فنانا شابا في بغداد الثمانينيات، عمل الفراجي محرك رسوم في برنامج تلفزيوني للأطفال. وفي أزمنة الحرب الإيرانية العراقية العصيبة، أنتج سلسلة من ألواح الحفر الغائر لمرضى مستشفى الشماعية للأمراض النفسية، كما ألَّف، من بين أعمال أخرى، كتابا فنيا بعنوان “سيرة رأس”، يحكي فيه قصة رأس من دون جسد. وكما يقول هو نفسه، فإن أعماله تأثرت بفناني التعبيرية الألمانية، وكذا بحبه للفلسفة والأدب، وبخاصة تلك التي تنتمي للتيارات الوجودية والتصوف
اليوم، تهيمن على أعمال الفراجي الأخيرة خيالات “سيلويت” هائلة الحجم وسوداوية.”مركب علي” (2014) مرثية بالرسوم المتحركة لوطنه، ألفها خصيصا لابن أخيه البالغ من العمر اثني عشر عاما، والذي يعيش في بغداد ويتوق إلى الالتحاق بعمه في أوروبا. وقد اقتنى المتحف البريطاني العمل، وهو الآن معروض في جاليري الأيام في بيروت. وفي رسالته إلى رؤيا، بالأسفل، يستعيد الفراجي الصور والقصص الأولى التي شكلت وجدانه كفنان.

In Baghdad, 2014. Courtesy of the artist.

.في بغداد، أسفل نصب الحرية، 2013، بإذن الفنان

ما هي أول صورة جذبت انتباهك في الطفولة؟

لم يكن هناك مايمكن تسميته بالشكل الاول او الصورة الاولى
كان هناك دائما بحر من الصور التي كونت مخيلتي الاولى، واسهمت في بناء هويتي
مثلا
كان هناك اولا تلك الصور التي تملأ البيت .. على الجدران او خلف الزجاج او على الفرش اوصحون البورسلان والفرفوري، وعلى سجاد الحيطان وسجاد الارض الكبير وسجادات الصلاه ووو.. صور الاهل وصور رجال الدين والسياسة، جنبا الى جنب مع مناظر الطبيعية وزخارف هي خليط من خطوط الايات القرآنية او الأقوال المقدسة واوراق الشجر والورود والحيوانات..
أتذكر صورة ذلك الأيل الجريح، او صورة تلك المرأة الجميلة “بنت المعيدي”، والصور المتخيلة للامام علي والحسين ومعركة كربلاء، حيث الملائكة والخيول والخيام ونساء واطفال ورجال بوجوه جميلة تمتلئ قداسة، محاطون بهالات مقدسة، تقابلهم وجوه اخرى تمتلأ شرا وقبحا.
كان في بيتنا ولا ادري كيف، صورة للوحة عيد البشارة لدافنشي، كانت معلقة على خزانة الملابس بحجم بوستر صغير، وكانت تثير بداخلي عاطفة عميقة لا ادري ماهي، حيث كنت ارى وجه الملاك فيها وكأنه وجه امي
لم يكن هناك تصنيف لهذه المجموعات من الصور التي تملا جدران البيت واثاثه.. كان كل ذلك يتفاعل مع بعضه كوحده واحده، ولم يكن ثمة من فرق عندي بين وجوه دافنشي ووجه بنت المعيدي .. كان عالم واحد تفاصيله تغذي بعضها لتكون مناخ ذلك البيت.

Still from Ali's Boat, 2015. Courtesy of the artist.

لقطة ثابتة من “مركب علي”، 2014، بإذن الفنان

Still from Ali's Boat, 2015. Courtesy of the artist.

.لقطة ثابتة من “مركب علي”، 2014، بإذن الفنان

Still from Ali's Boat, 2015. Courtesy of the artist.

.لقطة ثابتة من “مركب علي”، 2014، بإذن الفنان

كذلك هناك ايام عاشوراء التي انحفرت في الذاكرة بقوة، تثير الخيال والحزن والغموض معا، وتلك كانت اولى المعارض، واولى العروض التي اشاهدها واتفاعل معها في حياتي.. كانت تبدو في عيون ذلك الطفل الذي كنته كبيرة بلا نهاية، وكانت خزينا عظيما من اللوحات والالوان والاشياء، التي تختلط باصوات الطبول والتراتيل والبكائيات بانواعها المختلفة، والتي تمتد بامتداد الشوارع حول بيتنا.. كل ذلك كان يعرض داخل محيط من السواد القاتم الذي طبع لاحقا اعمالي بقوة، متجليا في ولعي الشديد بتقنية الكرافيك وبسواد احبارها، وبالاجساد السوداء المنحنية او المنطوية على حالها او تلك المحلقة نحو الاعلى او المحدقة في ما لا اعرفه.

HView_019b copy

.لقطة ثابتة من “البيت الذي ابتناه أبي”، 2011، بإذن الفنان

HView_041b copy

.لقطة ثابتة من “البيت الذي ابتناه أبي”، 2011، بإذن الفنان.

كان هناك ايضا صور ذلك الكتاب الساحر “القراءة الخلدونية”، اول كتاب مدرسة نقرأة ونتصفحه في حياتنا نحن العراقيون، كتاب الصف الاول الابتدائي، والمملوءة صفحاته بالرسوم التوضيحية المكتظة بالناس والحيوانات والاشجار.. رسوم بسيطة جدا لكنها كانت تلاحق مخيلتي وتضعها داخل حكايات لانهاية لها، كنت حين افتح الكتاب اجدني اغني مع البلبل وارعى الغنم مع الراعي واصيد السمك مع الصياد.. لا ازال اتذكر كيف ان وجود اسمي “صادق” داخل درس على احد صفحات ذلك الكتاب كان يجعلني اشعر بالصلة مع كل الاشكال المرسومة واكون واحدا من ذلك الحشد، اعيش فيه مغامرة تحليق لا ينقطع، داخل فضاءات رحبة ولا نهائية تعوم وللابد مع صفحاته الحبيبه

نعم، ليس هناك صورة اولى، بل على الاصح هناك بانوراما كبيرة تمتلئ بالقصص والحكايا، وتتداخل فيها الصور والاصوات والمشاعر، بحيث انني كيفما نظرت يكون هناك صورة تأخذني واستغرق فيها بالكامل
الان حين أنظر الى الخلف، الى تلك الواقعية السحرية التي كنت اعيشها طفلا، اجدني لا استطيع ان افصل صورة عن صوره، أو حدث عن حدث.. كان هناك دائما نسيج واحد، انزرع داخل روحي وعقلي، مكونا البنية الاولى والاساسية لهويتي كانسان وكفنان

Still from Biography of a Head, Engraved 1985, reproduced 2014. Courtesy of the artist.

.”سيرة رأس”، نحت، 1985، إعادة إنتاج في 2014، بإذن الفنان

ما هو دور الفنان في رأيك؟
لا يوجد دور محدد للفنان، فهو قد يكون رائيا او مفكرا وقد يكون حكواتيا او حتى ناشطا اجتماعيا اوسياسيا، وقد يكون كل ذلك، لكن عمله في النهاية لا بد وان يكون اقرب الى السجل الذي يوثق وجوده وزمانه من خلال توثيقه لذاته

Alfraji in his family home, 1980s, Baghdad. Courtesy of the artist.

.الفراجي في بيت العائلة في بغداد الثمانينيات، بإذن الفنان

Alfraji in his family home, 1980s, Baghdad. Courtesy of the artist.

.الفراجي في معهد الفنون الجميلة، جامعة بغداد، بإذن الفنان

أية ذكريات عن بغداد أو العراق تعيد إنتاجها في أعمالك الفنية؟
كل شئ في ذاكرة مدينتي الاولى هو باب للحلم وللنوستالجيا والوجع، كل شي هو باب لمفهوم او فكرة تمهد لعمل فني.

القصص كثيرة، لاتنتهي، يمتزج فيها الواقع بالخيال والفنتازيا، ولعل ما يحضر في ذاكرتي هذه اللحظة هو موت احد الضيوف من الاقارب الاعزاء جدا في بيتنا.. كان ذلك في ليلة صيف جميله، وكنت فوق سطح البيت متمتعا بعذوبة الهواء، وفي الخدر الاول الذي يسبق النوم، حين سمعت ضجة في باحة الدار.. وإذ نظرت من الاعلى وجدت ابي يتحرك بسرعة وثبات ممسكا بفراش ضيفنا النائم يديره بشكل نصف دائري، والضيف ممدد على ظهره جامدا لا يتحرك الا من انتفاضات صغيرة في وجهه وفمه المفتوح، لم افهم الامر لحظتها، لماذا هو كذلك.. كنت العب معه قبل ساعتين وكان يحدثني بوعود كثيره وهدايا..
حركة والدي المرتبكة، برودة وجه الضيف بعيونه المفتوحه ولطم امي على خدودها، اثار عندي رعبا لا يزال ينبض بداخلي..
كان الرجل بانفاسه الاخيرة يصدر حشرجات متقطعه، وكان والدي يدير الفراش ليكون الوجه والجسد الثقيل باتجاه القبلة..

امام عيني سلم الروح وفارق الحياة، غير ان عيونه كانت ماتزال مفتوحة باتجاه السماء يملأها ضباب ابيض يشبه بياض غيوم بغداد..
كان ذلك اول لقاء لي مع الموت، الموت الذي التصق في روحي بشدة، وبذهول لون قلبي بسواده، ورافقني دائما في تفكيري وفي عملي

2015, آمرسفورت بهولندا

InTheAtelier1 copy

.الفراجي في الاستوديو الخاص به، آمرسفورت، بإذن الفنان