نيويورك تايمز

أجنحة العراق وأوكرانيا وسوريا في بينالي فينيسيا تعكس النزاعات في بلدانها

فرح نايري

Screen Shot 2015-06-15 at 14.07.05

فينيسيا- عندما سقطت الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية في يونيو (حزيران) الماضي، فكر أعضاء مؤسسة رؤيا، وهي مؤسسة عراقية غير ربحية تشرف على تنظيم جناح العراق في الدورة الأخيرة من بينالي فينيسيا، في نبذ كل الخطط الخاصة بمعرض العام الجاري. وقالت تمارا جلبي، رئيسة المؤسسة “مع كل هذا التقتيل والموت والاغتصاب، كيف يمكن أن تفكر مجرد تفكير في الثقافة؟”.

في نهاية المطاف، مضت الخطط قدما لأن المشاركة كانت بمثابة “إعلان موقف”، على حد تعبيرها. “عندما ترى كل شيء آخر يتعرض للتدمير، تدرك أن المشاركة تمثل محاولة للحفاظ على الثقافة”.

في القرن الذي أعقب ظهور الأجنحة الوطنية للمرة الأولى هنا في بينالي فينيسيا، ظلت تلك الأجنحة تعمل بوصفها سفارات ثقافية للبلدان التي تمثلها. لكن ماذا يحدث عندما تكون تلك البلدان في خضم نزاعات مسلحة؟ عادة يعكس الفن ما تشهده الأوطان من ويلات: إذ يقوم الفنانون والمدراء الفنيون، الذين يعتبرون تصوير الواقع واجبا ملزما عليهم، بتصوير هذا الواقع مستخدمين مختلف الوسائط، وهكذا تصبح فينيسيا منبرا للنزاعات الجيوسياسية.

هكذا تجد الصراع ملحوظا بكل تأكيد في أجنحة العراق وأوكرانيا وسوريا هذا العام. العراق وأوكرانيا يعالجان الاعتداءات بطريقة مباشرة: العراق يستحضر بشاعات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بالرسم، وألوان المياه، والصور الفوتوغرافية، بينما توضح أوكرانيا محنتها عبر التصوير، والنحت، وعمل مركب يظهر فيه فنانون يدخلون في إضراب عن الطعام. مع ذلك فقد أصبحت الحرب الأهلية السورية واحدة من بؤر الاهتمام بعدما انسحبت مجموعة “أبو نضارة” الفنية السورية لإنتاج الأفلام من العرض الرئيسي في البينالي، احتجاجا على استثناء فيلمها القصير الأول من أسبوع الافتتاح فيما اعتبرته “عملا من أعمال الرقابة”، بل وتنازلت عن “الإشادة الخاصة” التي كانت قد منحتها لها لجنة تحكيم البينالي يوم السبت. (المتحدث باسم الخبير و المدير الفني للبينالي أوكووي إنويزور نفى مسألة الرقابة وقال إن لجنة التحكيم اطلعت على أفلام “أبو نضارة” وأشادت بها).

وقال نيكولاس سيروتا، مدير متاحف تيتـ0 Tate الذي جاء لحضور الفعاليات “بينالي فينيسيا يكشف عن التوترات في العالم، وكيف تريد البلدان أن تقدم أنفسها”.

بدأ البينالي عام 1895 كمعرض للفن الجديد من شتى أرجاء العالم، ومع زيادة مشاركات الفنانين، اقترح المنظمون أن تنشئ كل دولة جناحها الخاص. وكانت بلجيكا هي الأولى، عام 1907؛ واليوم تخصص نحو 90 دولة أجنحة لها في المعرض. وفي حين تكون الأجنحة مدعومة من الحكومات عادة، يلعب المال الخاص دورا كبيرا ومتزايدا. والواقع أن أجنحة العراق وأوكرانيا وسوريا مولت بالكامل بأموال خاصة، وتكفل رجل الأعمال الملياردير فيكتور بينتشوك بجناح أوكرانيا.

Screen Shot 2015-06-15 at 14.06.49

أحد المحاور الأساسية التي ركز عليها جناح العراق هذا العام (الذي يقام في قصر “كا دندولو” المطل على الـ”جراند كنال”) هو مجموعة من الرسوم التي أبدعها لاجئون عراقيون بالغون فروا من مذابح داعش. وقد أنتجت هذه التصاوير- من بينها مسلح مقنع يطلق النار على أم وابنها، ورجل مقيد تسيل الدماء من قلبه لتشكل خريطة للعراق- عندما أخذت مؤسسة رؤيا أوراقا وأقلام رصاص وأقلاما ملونة إلى لاجئين في ثلاث مخيمات في شمال العراق. وبعدها نقلت الرسوم كافة، وعددها 546 رسما، بالطائرة إلى بكين وعرضت على الفنان الصيني آي ويوي، الذي اختار بعضها لكتاب نشرته المؤسسة. (الكتاب معروض للبيع في المعرض وسيذهب ريعه إلى اللاجئين).

وقالت الآنسة جلبي، وهي ابنة أحمد جلبي، الذي كان ذات يوم زعيما للمعارضة العراقية ومدعوما من الولايات المتحدة، إن مؤسستها طلبت أن تمثل العراق مرة ثانية بعد أن كانت قد نظمت الجناح الماضي في 2013. وقد منحتها الحكومة الموافقة و”تصريحا على بياض” للإدارة الفنية، بحد وصفها، ولكن من دون أي نقود. واختارت المؤسسة فيليب فان كاوتيرين، المدير الفني لمتحف “سماك” للفن المعاصر في مدينة خنت البلجيكية، ليشرف على المعرض، ومولته بمبلغ 600 ألف يورو (675 ألف دولار تقريبا) جمعتها من شركات عراقية خاصة وأفراد عراقيين.

من بين الفنانين الخمسة المشاركين في الجناح، اختار اثنان إبداع أعمال تتعلق مباشرة بتنظيم الدولة الإسلامية. إذ عرض حيدر جبار، وهو شاب مغترب في تركيا، لوحات مائية تعبيرية تصور سلسلة من الرؤوس المقطوعة الدامية، وقد عرفت كل منها برقم الحالة (بدلا من الاسم). أما آكام شيخ هادي فقدم عرضا مبهرا مكونا من صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود تصور أشخاصا من أبناء مجتمعات تعرضت لهجمات تنظيم الدولة الإسلامية، وقد لُف حول أقدامهم نسيج أسود، يمثل راية المعتدين.

يقول السيد هادي، العراقي الكردي، وهو يقف إلى جانب صوره الفوتوغرافية “لقد جاءت داعش للقتل فقط” ويضيف أن الراية “تشبه أفعى” تتلوى حول ضحاياها.

أما فنانو أوكرانيا- حيث تحارب القوات الحكومية الانفصاليين الموالين لروسيا منذ ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في أوائل 2014- فقد كانوا أكثر إبهارا في التعبير عن موقفهم في فينيسيا. فما إن أتى يوم الجمعة حتى احتل فنانون أوكرانيون ناشطون (غير مرتبطين بالجناح الوطني) الجناح الروسي وهم يرتدون الزي المموه، ودعوا الزوار لارتداء أزياء عسكرية تحمل شعارات مختلفة.

أما الأعمال الفنية في الجناح الأوكراني نفسه، وهو صندوق زجاجي قائم بحذاء الـ”جراند كنال”، فجميعها تتناول النزاع في أوكرانيا بشكل أو بآخر. داخل الجناح، تقدم جماعة تحمل اسم “المجموعة المفتوحة” فنانا شابا في إضراب عن الطعام، جالسا على طاولة ومعه إبريق ماء وكوب، يتابع تسع شاشات تنقل بثا حيا لبيوت الجنود الأوكرانيين الذين جندوا. وكلما عاد جندي من الجبهة، ينهي الفنان إضرابه ليحل محله فنان آخر. وفي خلفية شاشات العرض تظهر صور فوتوغرافية ملونة لطاولات في بيوت الجنود، وعليها حاجياتهم.

وقال الخبير الفني البلجيكي بجورن جيلدهوف، الذي عينته وزارة الثقافة الأوكرانية، إن تجاهل الموقف العسكري بالنسبة له كان “ضربا من المستحيل”. وأضاف: “أظن أن ذلك سيكون هروبا من الواقع”.

خارج الجناح ينتصب نحت مغلف من إبداع الفنان الأوكراني نيكيتا كادان، مصنوع من مفردات تالفة مأخوذة من شرق أوكرانيا. تشمل كتلا أسمنتة من بناية سكنية تعرضت للقصف، وفناجين شاي ذابت واختلطت بالرف الزجاجي الذي كانت موضوعة عليه.

وقال السيد بينتشوك، راعي الجناح- والذي رعى أيضا أجنحة أوكرانيا في عامي 2007 و2009- إنه يدرك أن الأوكرانيين “لن يتفهموا” أن يصمت جناحهم عن الوضع القائم، ومع ذلك فقد حذر فريق الفنانين قائلا: “لا تظنوا أن بإمكانكم عمل شيء مناهض للروس، على الإطلاق”. (لاحقا قال متحدث باسم السيد بينتشوك إن السيد بينتشوك سبق وأن أدان ضم شبه جزيرة القرم وما تلاه من قتال في شرق أوكرانيا، لكنه بخلاف ذلك ليس ناقدا لروسيا).

ويعد الجناح السوري الأقل انفتاحا في تناوله للصراع. وقد موله بالكامل رعاة غير سوريين (أغلبهم إيطاليون)، ويعرض خليطا من الفن السوري والأوروبي. وقد اختار الأعمال السورية عماد قشوط، المسؤول الثقافي بدمشق، بينما قال الخبير الفني للجناح، الإيطالي دوتشيو ترومبادوري، إنه انتقى الأعمال الأوروبية بنفسه.

وقال السيد ترومبادوري “سوريا بلد يمر بمرحلة عصيبة. وهدفنا هنا أن نظهر أن السياسة والتاريخ قد يسببان الشقاق، أما الفن فليس كذلك”.

أحد الأعمال، من إبداع إحسان ألار، يظهر مجموعة من الأقدام المنحوتة على درب من الرمال: وهو ما يمثل، وفقا للسيد ترومبادوري، عملية الهجرة. عمل آخر، من إبداع نصوح زغلولة، يتكون من صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود لمناظر من النافذة وساحات لا تظهر عليها أية علامات للحرب. كذلك يعرض الجناح مجموعة غير مترابطة من أعمال “الكولاج” تنتمي لفن الـ”بوب آرت”، ومناظر لمدن، ونحتا من الحديد المقاوم للصدأ على هيئة جبل جليدي يطفو في البحيرة للفنان الإيطالي الألباني هيلدون تشيكسا يدين فيه الاحتباس الحراري.

أما النظرة الأكثر تشريحا لسوريا فتجدها في الفيلم الافتتاحي الذي أنتجته مجموعة “أبو نضارة”، وفيه يمشي الرئيس السوري بشار الأسد بوقار على سجادة حمراء أمام تشكيل عسكري. وفجأة، تنقطع الصورة ونقرأ عبارة: “عذرا على العطل الفني. برجاء متابعة الاستمتاع بالمشهد”.