أوكووي إنويزور، أول مدير فني أفريقي لبينالي فينيسيا، يهجر أساليب “البيزنس” المألوفة ويجتذب فنانين على هوامش عالم الفن.

ماري لين

30 أبريل 2015

“لا يقتصر إنتاج الفن على الأوروبيين أصحاب البشرة البيضاء والرعاة الكبار. عفوا”. هكذا يقول أوكووي إنويزور، أول مدير فني إفريقي لبينالي فينيسيا.

برز السيد إنويزور، 51 عاما، كمدير لمتحف “هاوس دير كونست” بميونخ، الذي أنشأه أدولف هتلر لكشف الدونية المزعومة لغير الآريين. وفي فينيسيا، هجر إنويزور أساليب “البيزنس” المألوفة في عالم الفن، إذ شجع العديد من الفنانين من بلدان طالما عانت من العزلة أو التجاهل لكي يأتوا إلى فينيسيا. وهكذا فإن الزوار الذين يقدر عددهم بنحو 300 ألف ممن سيحضرون معرض هذا العام، الذي يفتتح في 9 مايو ويستمر حتى 22 نوفمبر، سوف يجدون مجموعة كبيرة من المواهب غير المألوفة.

منذ افتتاح المهرجان لأول مرة عام 1895، قامت 89 دولة ببناء، أو تجديد، أو استئجار بنايات صغيرة، أو “أجنحة” لعرض أعمال الفنانين. وبينما تختار كل دولة ممثليها، فإن المدير الفني للبينالي هو الذي يضطلع بضبط الاتجاه العام، حيث يختار بنفسه فنانين بعينهم لتقديم أعمالهم في منطقة “الأرسينالي”، التي تضم مجموعة من مصانع الأسلحة القديمة وترسانة تاريخية لصناعة السفن عفا عليها الزمن.

اختار السيد إنويزور لمعرض هذا العام اسم “كل مستقبلات العالم”، وأبدى فيه حماسه لنطاق واسع من الوسائط الفنية- بداية من القراءات التي لا تتوقف لثلاثة أجزاء من كتاب كارل ماركس، “رأس المال”، بأصوات مجموعة من الممثلين، وحتى القبة النحاسية التي شيدها الفنان الكونغولي سامي بالوجي استنكارا لاستغلال بلجيكا لمناجم النحاس في الكونغو.

بميزانية لا تتجاوز 15 مليون دولار جمعت من ممولين أفراد، أنشأ السيد إنويزور أيضا قسما باسم “الأرينا” Arena، صمم للعروض الأدائية التي تتعامل مع تيمات صعبة يأمل أن تستطيع شق طريقها وسط الاتجاه السائد في عالم الفن. ويقول “لدي الحرية لتقديم مشروعات قد تنتهي إلى الفشل على المستوى التجاري”.

ومن بين هذه المبادرات مشروع “الحدود الأفريقية الخفية”، وفيه انطلق هؤلاء الفنانون الأفارقة المغمورون معا في جولة برية في أرجاء أفريقيا منذ عام 2009، محققين نوعا من التبادل الثقافي صار بديهيا في مدارس الفن الأمريكية والأوروبية.

ويحرص السيد إنويزور على الحفاظ على سرية مجموعة من الفنانين الصاعدين الذين يشاركون في معرضه، وهي مجموعة “أبو نضارة” الفنية السورية. هذه المجموعة السرية التي تضم عددا من صناع الأفلام، والتي تأسست عام 2010، تنتج أفلاما فكاهية وتراجيدية عن الحياة تحت حكم بشار الأسد. كل جمعة، سوف تقدم المجموعة عرضا افتتاحيا لفيلم جديد في “الأرينا”.

تقول ميليسا تشيو، مديرة “متحف هيرشهورن وحديقة النحت” بواشنطن العاصمة: “هذا العام سنشاهد في فينيسيا فنانين لا يسمع بهم أحد عادة خارج بلدانهم، يعرضون على قدم المساواة مع أقرانهم”.

كذلك سوف تستضيف كل من “الأرينا” ومعرض السيد إنويزور لأعمال النحت والفوتوغرافيا والتصوير في “أرسينالي” فنانين عدة ممن ينتمون إلى النمط السائد. حيث يقدم ثيستر جيتس عرضا حول هدم كنائس تنتمي للجاليات ذات الأصول اللاتينية والأفريقية في أمريكا. وبناء على طلب من السيد إنويزور، سوف يقدم بروس ناومان، الذي سجلت أعلى أعماله مبيعا رقم 9.9 مليون دولار، معرضا مصغرا يضم عددا من أعماله السابقة من لافتات النيون التي اشتهر بها.

على مدار العقد المنصرم، ظلت المؤسسات الثقافية تنظم فعاليات على هوامش البينالي الرسمي ساعدت الفنانين غير الغربيين في مسارهم المهني؛ أولئك الفنانون الذين سبق لهم العرض في أوروبا ولكنهم لم ينالوا دعما حقيقيا من مؤسسات مرموقة.

لكن بفضل السيد إنويزور، لن يظل الكثير من هؤلاء الفنانين أسرى للهامش. في الجناح البلجيكي، يقدم السيد بالوجي عملا بعنوان “مقال عن التخطيط الحضري”، يتكون من 12 صورة فوتغرافية لمناظر طبيعية وحشرات من الكونغو. وسوف تعرض الصور إلى جوار صفائح نحاسية رسم عليها بطريقة الثقب أشكالا تشبه الأشكال التي اعتاد الكونغوليون نقشها على أجسادهم.

شركة روليكس لإنتاج الساعات، ومقرها جنيف، تكفلت بنفقات برنامج تدريبي للسيد بالوجي، 36 عاما، مع الفنان الدنماركي المقيم في برلين أولافور إلياسون، 48 عاما. واستطاع السيد بالوجي من خلال عمله في ستوديو السيد إلياسون تحصيل المهارات اللوجستية اللازمة لإنتاج معرض من أجل البينالي، ويقول إنه تعلم حل مشكلة طالما استعصت على فناني البلدان النامية، ألا وهي: كيف يوظف الفنان أساليب تستخدمها القبائل عادة من دون أن يضفي عليها ملمح “الغرائبية”، ومن دون أن يجعل النسخة الحديثة تبدو وكأنها “عملا حِرفيا” بشكل زائد عن الحد.

للمرة الأولى سوف تستأثر النرويج بالجناح الاسكندنافي، “جناح دول الشمال”، بالكامل لنفسها. لكن بدلا من اختيار مدير فني نرويجي، طلبت النرويج من المديرة الفنية الأنجلو-أسبانية كاتيا جارثيا-أنتون اختيار فنان واحد للجناح. ووقع اختيارها على الفنانة الأدائية كامي نورمينت، المولودة في ولاية ماريلاند الأمريكية كامي، والمقيمة في أوسلو منذ عشر سنوات. وتقول الآنسة جارثيا أنتون أن اختيار الآنسة نورمينت يدعم التنوع في أوساط الفنانين في النرويج.

اختيار أجانب لتمثيل الأجنحة الوطنية يمكن أيضا أن يتسبب في أزمة ثقافية، كما اكتشفت كينيا عندما عينت مديرة فنية إيطالية هي باولا بوبوني للإشراف على جناحها. إذ اختارت الآنسة بوبوني فنانين أغلبهم صينيون، ما أثار غضبا دوليا من “الاستعمار” الصيني للثقافة الكينية. بل إن السيد إنويزور، مدير البينالي، نفسه أعرب عن غضبه.

“مجموعة من الفنانين معدومي الضمير اختطفوا كينيا”، هكذا جاء تصريحه في أوائل إبريل، وهو مثال نادر على رئيس للبينالي ينسف اختيار أحد الأجنحة. بعدها بأيام، سحبت كينيا مشاركتها من المعرض. ولم يتسن الوصول لا إلى الآنسة بوبوني ولا إلي مسؤولين ثقافيين كينيين من أجل الحصول على تعليق.

فنان آخر كان ظهوره في جناح العراق بمثابة لقاء جديد تأخر كثيرا مع الجمهور الغربي. إذ كان المصور الفوتوغرافي لطيف العاني واحدا من أنجح مصوري العراق قبل نصف قرن. ويتذكر السيد العاني، في أسفاره العديدة إلى أمريكا وأوروبا في الستينيات والسبعينيات، كيف ذهل لرؤية برج إيفل والباريسيات الأنيقات اللاتي صورهن من أجل معارض في بغداد.

لكن مع انزلاق بلاده في مستنقع الديكتاتورية، رأى السيد العاني، البالغ الآن 82 عاما، عالم الفن الجميل الخاص به وهو يتداعى. رفض التخلي عن “تواصله الروحي” مع العراق بالهجرة إلى الخارج، وتنازل- بدلا من ذلك- عن حلمه بعرض صوره الفوتوغرافية على الجمهور الأوروبي، تلك الصور التي أصبحت الآن أثرا يوثق شرق أوسط علماني ترى فيه أمهات أنيقات يتسوقن وسيدات أعمال بريطانيات يرتبن لقطات أفلام صحراوية- حتى جاءت فرصة البينالي.

وأعلن السيد إنويزور مؤخرا أن إل أناتسوي، فنان النسيج الغاني السبعيني، سوف يتسلم جائزة الأسد الذهبي عن مجمل أعماله في دورة البينالي هذا العام. ومن المرجح أن يرفع هذا التكريم من أسعار أعماله أكثر وأكثر. وكانت قاعة “سوثبي” للمزادات بلندن قد حققت رقما قياسيا لإل أناتسوي حين باعت عمله المسمى “دروب لمزرعة أوكرو” عام 2014 بمبلغ 1.4 مليون دولار، وهي لوحة مصنوعة من أسلاك النحاس والألومنيوم، وذلك بعد طلبات بعرض المزيد من أعماله في قاعات المزادات عقب معرضه في دورة البينالي عام 2007.

لا يزال كبار السماسرة في عالم الفن يشددون على أن هذا المستوى من النجاح هو حظ بعيد المنال. مارك جليمتشر، الرئيس المناوب لجاليري “بيس” Pace في مانهاتن، تعاقد مع الفنانة الإسرائيلية ميشال روفنر، 57 عاما، بعدما مثلت إسرائيل في دورة البينالي عام 2003. ومن وقتها انطلقت أسعارها إلى عنان السماء. لكن السيد جليمتشر، 51 عاما، يظل متشككا بشأن ما إذا كان كل الفنانين من الدول غير المقدرة في عالم الفن سوف ينالوا الحظوظ نفسها. إذ يطرح السؤال: “هل ستختطف مافيا رعاة الفن فنانين من تلك البلدان فقط لأنهم جاءوا من أماكن “مثيرة”؟ أم سيكون ذلك لأنهم يقدمون فنا جيدا بحق؟”.

صورة : شرطيون يتعلقون بمؤخرة حافلة للشرطة في القاهرة، مصر، تصوير لطيف العاني (1964). الصورة من مجموعة لطيف العاني.