الحوارات على المستوى الإقليمي هي سلسلة من المقالات الانترنتية تقوم بها مؤسسة رؤيا،وفيها تعالج قضايا تتعلق بالفن والنزاعات في الشرق الأوسط على أوسع نطاق.
في الصيف الماضي، بادر الفنان الدمشقي “غيث مفيد”، إلى دفن نصف وثيقة منتهية الصلاحية تحت الأرض بمدينة كوينكا في الإكوادور، ثم أخذ قليلا من التراب معه إلى مكان إقامته في إسطنبول، حيث يعيش منذ عام 2012. أوضح مفيد الدافع وراء ذلك قائلا: “الإكوادور هو أحد البلدان القليلة في العالم الذي يسمح للسوريين بزيارته من دون تأشيرة دخول. إنه أبعد نقطة يمكنني أن أسافر إليها من دون تأشيرة دخول.” كذلك فإنه سيدفن النصف الثاني من هذه الوثيقة في ماليزيا، التي هي الأخرى أبعد نقطة في الشرق من بين هذه البلدان القليلة التي تسمح للسوريين بزيارتها من دون تأشيرة دخول.
ويلعب السفر دورا مهما في عمل “مفيد”. ففي بداية تنفيذ مشروعه، “رحلة الخلية” (2015)، سافر الفنان من إسطنبول إلى مسقط رأس والد جده، المتمثل في مدينة أوف، التابعة إلى محافظة ترابزون على البحر الأسود، في شمال- شرقي تركيا. وكان المشروع الأخير معرضا للصور والوثائق من الإرشيف العائلي يتضمن مقاطع منتقاة من يوميات جده، وقامت بتقديمها مؤسسة “بروتوسينما في فضاء الفن 5533” بإسطنبول عام 2015.
وعلى الرغم من القيود المفروضة على سفر الفنانين السوريين فإن مفيد في أغلب الأحيان يسافر خارج إسطنبول. والفنان حاليا يكمل إقامته في مؤسسة دلفينا، بلندن، وبدعم من مؤسسة الأتاسي. وقد دُعي مؤخرا لإلقاء كلمة في برويكتو آميل، وهو فضاء فني معاصر ومستقل في مدينة ليما، بيرو.لإكمال رحلته إلى ترابزون، تعقب مفيد خط رحلة جده من دمشق عام 1986. وقال موضحاً: “جدي ولد في دمشق لكنه سافر إلى ترابزون لزيارة أحد أبناء عمه خلال الثمانينيات من القرن الماضي. وقد كتب يومياته هناك والتقط صورا استعملتها كمرجع.”
يمكن القول إن مفيد انضم إلى نمط من الفنانين الذين يتحدد عملهم عبر رحلات إسطورية. فهؤلاء المتسكعون ما عادوا مقتنعين برحلات قصيرة إلى مدن أوروبية وهم في الغالب يقومون برحلات طويلة، حيث يتجاوزون فيها الأقاليم والحدود والقارات. فعلى سبيل المثال، مشى الفنان البرازيلي باولو نازاريث، ضمن مشروعه قيد التنفيذ، “كاديرنوس دو أفريكا” الذي خصص له خمس سنوات، عبر نيويورك وعبر قارة أفريقيا إلى مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا. وخلال رحلته، تعقب الفنان آثار الدروب التي سار عليها العبيد السابقون واستلهم من إرثه المتكون من خليط أفريقي ومن سكان البرازيل الأصليين.
“إنهم يعملون ضد الميول المعاصرة للإنتاج الفني السريع والوصول السهل للمستهلكين في زمن العولمة.. لذلك فإن أعمالهم تهوِّل من أهمية المسافات الفاصلة بين البلدان والثقافات، عبر الحدود والتوقيتات المختلفة، لإظهار كيف يمكن أن يكون حيز محلي من أرض ما متعدد الطبقات ومعقداً.” هذا هو الوصف الذي جاء لجيل الفنانين في معرض أقيم لهم عام 2013 في “المتحف الجديد” بنيويورك والذي كان عنوانه: ” المشي، التسكع، الانجذاب“.
وإذا كانت “رحلة خلية” توثق سفرات الفنان عبر تركيا فإنها في الوقت نفسه تعود إلى الطرق التجارية المُعولَمة للإمبراطورية العثمانية، قبل تقسيمها عام 1918 وفق اتفاقية سايكس- بيكو. يقول مفيد: “كان جد جدي مستشارا للسلطان عبد الحميد الثاني. وكان ابنه والد جدي معيَّنا في الحجاز، في المملكة العربية السعودية، وفي طريق عودته إلى تركيا، توقف في دمشق واستقر هناك. وقد تزوج امرأة تركية من أنقرة ثم ولِد جدي.” مع ذلك، فإن الدول الحديثة وحدودها التي رسِمت عام 1918 قد هشمت عالم مفيد. ففي عام 2012، ترك سوريا وانتقل إلى مصر ثم إسطنبول، حيث التحقت أخيرا عائلته به. يقول مفيد:”سوريا بوضعها الحالي ليست بلدي.” لذلك أصبحت رحلته إلى ترابزون بحثا عن الاستمرارية: “كعائلة، نحن كنا نشعر دائما أن لنا آصرة بتركيا وكنا نعرف أننا نريد زيارتها يوما ما.“
البذور والتربة والخلايا ليست إلا مجازا للتجذرأو البحث عنها. يقول مفيد متذكرا: “المشي عبر “أوف” كما فعل والد جدي وجدي ذات مرة، جعلني أشعر وكأني كنت هناك من قبل. وقد وصلتُ إلى قبر جد جدي وكان بإمكاني رؤية الجبال المحيطة به والأنهار… إنه أمر مبهر، لكنني كنت أعلم أنني لا انتمي إلى هذا المكان. أنا أنتمي إلى ذلك المكان ذي الزوايا المعتمة الذي يسمونه سوريا.” مع ذلك، فإن “مفيد” عاد إلى إسطنبول ومعه بذور من “أوف” فقام بزرعها مستخدما ترابا من منطقته في إسطنبول، والشجيرات الصغيرة التي نبتت موجودة كـ “عمل فني حي” أطلق مفيد عليها “بيوفلو”. كذلك، فإن “رحلة خلية” تتعاطى مع التجربة الذاتية للرحلات المشتركة، المتذكَّرة والمتخيَّلة. يقول مفيد: “أنا لم أعرف جدي أبدا، لكني الآن أشعر بأني قريب منه..وقد كتب والد جدي قصائد حب مهداة لشخص يعيش في “أوف”. وحين وصل جدي إلى القرية، اكتشف أن الشخص كان في حقيقة الأمر نهرا يمكن رؤيته من البيت. ولم يكن ممكنا ربط هذه النقاط مع بعضها البعض إلا من خلال هذه الرحلات عبر الأجيال.” يميز مفيد عمله عن عمل المؤرخ كالتالي: “ليس هناك تأريخ للعائلة، إذ أن كلا منا يخلق تأريخه. لوالد جدي وجدي حكاياتهما الخاصة بهما. وهذه هي حكايتي الخاصة بي.“
في آخر أعماله، تبنى مفيد فهما سياسيا أكثر للترحل والنزوح. فهنا يمكن تعريف تجواله بأنه تواصل عالمي متزايد من جانب، ومن جانب آخر، محدودية حركته لأنه مواطن سوري. يقول الفنان مفيد: “الأكوادر تبعد ست عشرة ساعة طيران من إسطنبول، بينما تبعد اليونان ساعة طيران واحدة. لكنني من دون تأشيرة دخول لا أستطيع السفر إلى اليونان. لذلك فإن الأكوادور أقرب إليّ من اليونان.. لم تعد المسافات بين البلدان تعرَّف جغرافيا.” فصعوبات الحصول على تأشيرات دخول إلى أوروبا بالنسبة للمواطنين السوريين أصبحت أسوأ بسبب أزمة اللاجئين في السنوات الأخيرة.
ومن بين هذه المشاريع المتواصلة “ذكريات المستقبل” التي تعتمد على صور لأماكن أثرية مطبوعة داخل جواز سفر سوري. قام الفنان بأخذ الصور السالبة لها، ثم قدمها عبر صندوق ضوئي.
يقول مفيد: “هذه الأماكن في جواز سفري تستثير ذكريات جميلة عن بلدي، من الماضي، أماكن ما عاد بالإمكان أن أذهب إليها .. وعلى الرغم من أني لا أستطيع العودة إلى سوريا، فأنا مقيَّد بهذا الجواز.” سترافق هذه الصور مشروعا قائما على الموسيقى. ” أنا أسأل كل من نزح، ليس فقط السوريين فقط بل العراقيين واليمنيين وأبناء أمريكا اللاتينية، أن يرسلوا لي أغنية تذكرهم بلحظة جميلة من ماضيهم. وهذه الأغنية تجعلهم يشعرون بفرحة طاغية حين يسمعونها”. كذلك فإن الفنان سيسجل هذه الأغاني على كاسيت ثم يسحب الشريط من علبته، بحيث أن هذه الأغاني تبقى غير مشغَّلة وغير مسموعة. يقول مفيد حول هذا المشروع: ” أنا أؤمن بأن ذكريات الوطن الجميلة يمكنها أن تساعدنا على صياغة مستقبلنا، بدلا من الاستغراق العميق في الخسائر والصدمات.”
يمكن القول إن تفاؤل مفيد غالبا ما يكون غير مقنع، إذا أخذنا بنظر الاعتبار مسار حرب أدت إلى نزوح 11.5 مليون شخص سوري داخليا وخارجيا حسب إحصائيات منظمة الأمم المتحدة. مع ذلك، فإنه يرى هذا جزءا من دوره كفنان. يقول مفيد موضحاً: ” أعتقد أن الفن سمح لي بتحويل حزني إلى شيء له قيمة وجميل. أنا شعرت بقيمة كل شيء أعيشه وبمسؤوليتي في إظهاره بشكل ما.. في البيرو كان لي حوار حول تجارب التعرض لموت قريب، والتي ذكرتني بتأثير أن يكون المرء نازحا. حتى إذا لم تكن ميتا جسديا، فإنك تصحو لتجد نفسك في مكان آخر وتعلم أنك نجوت. أنت تشعر بالجوع للمعرفة، والجوع للقيام بأي شيء جديد لنفسك.”
في عمل مفيد، الرحلة هي أثر عبر الحدود والقارات، لكنه أثر عبر الأجيال أيضا وعبر الزمن. فالمسافر يتنقل ما بين الماضي والحاضر والمستقبل بحثا عن أصول، وأواصر ومعرفة وجمال. والحركة يمكنها أن تكون جسدية، سياسية أو ذاتية. يقول مفيد معلقا: “كل رحلة تبدأ في دواخلنا كفكرة تدفعنا إلى الأمام، مع ذلك فإني على الرغم من كوني حراً ذهنياً فإن هناك أماكن قد لا أستطيع زيارتها أبداً.”