قاتَلَ فناّن جناح العراق سيروان باران كَجندي خلال الحرب العراقية الإيرانية، وَخَدَم في صفوف الجيش العراقي كَفنان حرب في حرب الخليج الأولى. غير أنّه يَفصِل أعماله الفنية عن تلك الفترة في اعتبار كونِها جزءًا من حملة دعائية تقيمُها الدولة. وَبحسب تصريحه في مقابلة له مع مؤسسة رؤيا يقول باران: “صحيح أنّنا رسمنا بأسلوب واقعي ولكن اللوحات لا علاقة لها بالمعركة الذي شهدناها على أرض الواقع كَجنود”.
وَمع ذلك، فقد كشفت سلسلة من اللوحات التي تم إنتاجها أثناء حرب الخليج الأولى والفترة القصيرة التي تلَتها بين العامَين 1990 وَ1993، عن محاولات باران تصويرَ رؤية أكثر شخصانيّة وَدقة حَول القتال. لقد فاوض الفنان بِواقع تجاربه المُعاشة القيودَ الدِّعائية للحرب والرقابة التي فرَضها النظام العراقي. كذا تكشف هذه اللوحات أيضًا عن مفاهيم البطولة، الشهادة والمجتمع السّلطوي، والتي يَسبر باران غَورَها بشكل أكثر صراحة في نشاطه الفنّيّ اللاحق، بعد رحيله عن العراق.
تنشرُ مؤسسة رؤيا أدناه وَللمرّة الأولى ثلاث صُوَر عن مجموعة الأعمال.
**
في هذه اللوحة، يُطرِقُ حارس ليليٌّ بِبَصرِه نحوَ الجنود الأسرى وَهو مُمسِك بِبندقيته بِشكلٍ عموديّ بالتوازي مع جسده، ما يؤكد هيمنته على السجناء الجاثمين عندَه. في الجزء الخلفي من اللوحة، تصطفُّ جثامينٌ مُظلّلة في محاكاة لِواقعة الإعدام. على اليمين، توحي دبابة مَركونة عن قربها من خط المواجهة الأماميّ. وَعلى الرغم من دلالات العنف – وَربّما بنَوع من التهكُّم-فإنّ الهلال الأحمر المطبوع على العلم وَعلبة الإسعافات الأولية يُشير إلى أنهم يتلقون رعاية طبية. في هذا المشهد، يظهر الجيش العراقي مُنتصرًا وَرحيمًا بأسراه من الجرحى في آنٍ معًا.
غَير أنّ وجود جنديَّين عراقيَّيْن بين الجرحى يعطي دلالة دقيقة حولَ مفهوم النصر والهزيمة. إذ نرى أحدهما يسير نحو الحارس الليلي محتضنًا ذراعَه المكسورة في حمالة طبيّة بيضاء. مُتّخذًا وضعيةً أكثر استرخاءً بشكل واضح، كما لو كان خارج الخدمة. على يساره، جندي جالس برأس نازف مضمّد، وقد غطى نفسه بمعطفه وأشعل سيجارة. يرسم باران أوجه تشابه واضحة بين الجندي الجالس وَالأسرى الرابضين أرضًا. حيث أحد السجناء يعاني إصابة مماثلة في الرأس. تُشير حيلة التسوية هذه إلى انعدام التفرقة بين الجنود المُوالين وَأعدائهم. فَجميعهم في المحصّلةِ مُصابون وَمستعبَدون.
في هذا المشهد، يتمّ تحشيد مجموعة من الجنود المشاركين في المعركة وَسط اللوحة، ينظر رجلان إلى الأمام صَوبَ عدوِّهم. أمام أعينهما مات رجل وَأصيب الآخر. وعلى الرغم من أنهم جميعًا يعرفون الجهة المهدِّدة، إلا أنّهم لا يستطيعون تمييزها تمامًا، حيث يرفع الجندي الثاني بندقيّته دون أن يصوِّبها كما هوَ مُفترَض. يوحي تركيب اللوحة بالحجم الكبير للمعركة، وفي الجزء الخلفيّ منها يتبدّى جندي متأهّبٌ آخر يعكس موقع الجميع في الظلام.
يستخدم باران الإضاءة للتركيز على الشخصية الرئيسية في اللوحة: الجنديّ المترنّح بجسمه إلى الأمام وَهو يجرّ الآخر المصاب نحوَ برّ الأمان. هذا الجنديّ مُدرك أيضًا للتهديد الذي يستهدف حياته هوَ: فَهو ينظر نحوَ العدوّ بانتباه وَعيناه المفتوحتان تلمعان في الظلام. هكذا يلتقط باران لحظة من الشجاعة، وَأيضًا موقفًا إنسانيًّا ينقل إلينا الصّراع الداخليّ الدّائر في قلبِ الجنديّ المُنقذ.
**
في حين تبدو اللوحات وَكأنّها أعمال رصديّة، فإنها تتأثر أيضًا بِتمثيلات الحرب في الثقافة الشعبية. يستخدم باران الإضاءة وَالتدريج السينمائي. وَغالبًا ما تستدعي أعماله استذكار مشاهد ملاحم الحروب الشعبية مثل فيلم Kelly’s Heroes (1970)، وَفيلم The Big Red One (1980)، وَالفيلم السوفيتي Leningrad (1993). بالإضافة إلى ذلك، خلق التصوير الفوتوغرافي الحربيّ الذي ابتُكِر إبّان حرب فيتنام مفاهيم جديدة حول فنّ رَسم مشاهد المعارك.
ارتكزت الحرب الإيرانية-العراقية أيضًا على إمكانية تسليح الصور والتصوير الفوتوغرافي. انخرط الحرس الثوري الإيراني الذي تولّى السلطة في العام 1979 بنشاط في إنتاج وَنشر الصّور الفوتوغرافية الحربيّة وَالملصقات تحت شعار “الدفاع المقدس”. استُخدمت هذه الصّور في المقام الأول لتبيان الهجوم العراقي على الأراضي الإيرانية، وحاولت أيضًا التأسيس لِثقافة بصريّة جديدة حول الثورة الإسلامية الأخيرة في إيران. في هذه الأثناء، أنتج صدام حسين ملاحِمه الخاصة بالحرب مثل القادسية (1981) تيمّنًا بالمعركة التي دارت رحاها في العصور الوسطى المبكرة بين الجيوش العربية والفارسية والتي تحمل الاسم نفسه.
تم إنتاج لوحات باران القتالية في ظلّ الشروط الصّارمة لِرقابة الدولة على الحملات الدعائية. ومع ذلك فإنّها تكشف أيضًا عن انطباعات الفنان الفلسفية وَالنفسية عن الحرب. قد يبدو الجنود شجعانًا لكنّهم أيضًا ضحايا معركة متواصلة، يعانون الأسر وَالإصابات البدنيّة وَالنزاعات الأخلاقية الداخلية. وَفيما يصرُّ الأسلوب الواقعي للرسم على الاحتفاظ بموضوعية المشهد، فإن استخدام الفنان للدعاية والإضاءة يَشي بكَون العمل مُستوحًى من الصور السينمائية والثقافة الشعبية السائدة في عصره. على الرغم من أن اللوحات كانت جزءًا من حرب صُوَريّة أكثر سعةً، فإنّها تعبِّر أيضًا عن التجارب الشخصية لِجندي شابّ.