أثناء الإعداد لمعرض “العتيق”، اختار المديران الفنيان للمعرض، تمارا جلبي وباولو كولومبو، تيمات داخل مفهوم “العتيق” هي بمثابة البواكير لأية حضارة. في أول تدوينة من هذه السلسلة، تطرح عالمة الآثار الدكتورة جين مون تأملات حول تيمة “الأرض” ومعناها بالنسبة للحضارات القديمة في جنوب العراق، وبالنسبة لعلماء الآثار في عالم اليوم.
والدكتورة جين مون الحائزة على وسام الامبراطورية البريطانية برتبة ضابط هي عالمة أثرية ومدير مشترك لـ “مشروع منطقة أور للآثار”، وهو مشروع تراثي في موقع تل خيبر بمحافظة ذي قار، جنوب العراق. عملت الدكتورة مون في بغداد لحساب “المدرسة البريطانية للآثار في العراق” في الفترة بين 1976 إلى 1986، وحازت وسام الامبراطورية البريطانية برتبة ضابط عام 2000 لما قدمته من خدمات لعلم الآثار. وقد بدأ “مشروع منطقة أور للآثار” في 2012 كوجه من أوجه التعاون الدولي بين “جامعة مانشستر”، و”المعهد البريطاني لدراسة العراق”، و”مجلس الدولة العراقية للآثار والتراث”. ويركز المشروع على موقعين يحملان آثار الاستيطان القديم في تل خيبر، على بعد 20 كيلومترا من مدينة أور القديمة. وأظهرت صور الأقمار الصناعية وجود مبنى كبير تحت سطح الأرض، وأكدت زيارة لاحقة للموقع في 2012 أن تاريخ هذا الاحتلال يرجع إلى 4000 عاما على الأقل.
تحدد كل ثقافة علاقتها بالأرض من تحت أقدامها، وبالنباتات والحيوانات التي تولد من تلك الأرض. ويعد هذا جزءا من جوهر البشرية. وتمتلك الشعوب القديمة في جنوب العراق علاقة وثيقة وشديدة الخصوصية مع الأرض، إذ كانت الأرض هي كل ما لديهم تقريبا. والرجال والنساء الذين تجمعوا للمرة الأولى فأنشأوا مدنا وطوروا طريقة للحفاظ عليها لم يفعلوا ذلك بحكم وفرة الموارد الطبيعية، بل العكس هو الصحيح. لم يكن هؤلاء يمتلكون إلا أقل القليل من الموارد الطبيعية؛ بوص ونخيل، وقدر محدود من المياه، لكنهم كانوا يتمتعون بقدر كبير من الإبداع البشري و- الأهم من ذلك- بمساحة كبيرة من الأرض: طين أو صلصال. ومن هذه الموارد شيدوا حضاراتهم الأولى، التي شملت حياة الحضر، والتواصل عن طريق الكتابة، والشبكات التجارية بعيدة المدى، كما شملت أيضا- أجل- البطش والاحتلال وغيرهما من سلبيات الحضارة.
كان الصلصال يستخدم في البناء، فيصنع منه الطوب اللبن، غير المحروق، الذي ظل واسع الانتشار في البناء القروي حتى وقت متأخر جدا. أما في المباني الضخمة فكانوا يستخدمون أيضا الطوب المحروق، وأحيانا الحجارة المستوردة الأغلى قليلا. على هذا النحو شيدت قصور ومعابد عظيمة، صممت لها عادة واجهات مبتكرة، لم يبق منها إلا القليل لعلماء الآثار، الذين يكون عليهم في العادة أن يرضوا بمخططات البناء. وحتى هذه المخططات لا ننالها إلا بشق الأنفس، فلأن الطوب المصنوع من الطين رخيص والتعامل معه يسير، ولأنه يحتاج إلى صيانة دورية لكي يقاوم الزمن، كانت عمليات التبديل وإعادة البناء دائمة ومستمرة. وهكذا، فعندما هُجرت تلك المباني في نهاية الأمر ودُفنت تحت سطح الأرض، كما هو مصير كل المباني في آخر المطاف، لم يتبق أمامنا سوى قطع من أحجية مصورة (بازل) شديدة التعقيد.
الفخار، هذا المنتج العظيم الذي يخرج من الأرض، هو المادة الأثيرة لدى علماء الآثار. فعلى خلاف الأحجار أو المنتجات اليدوية المعدنية الثمينة، تتكسر الآنية الفخارية بسهولة، وتُرمى وتُستبدل. بالطبع ثمة استثناءات (فكلنا لدينا فنجان شاي يعود إلى عصر الجدة الكبرى)، لكن معظم حطام الأواني التي يُعثر عليها أثناء التنقيب تكون قريبة في تاريخها من السياق الذي استُخدمت فيه لآخر مرة. ويعني هذا أن الطرز المتغيرة في أساليب صناعة الفخار عظيمة الفائدة في تحديد تاريخ المبنى الذي وجدت بداخله. القدور التي ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ غالبا ما تتميز بجمال الصنعة: شُكلت باليد وطُليت بألوان كانت زاهية في وقتها. مع ذلك، فقد اُخترعت عجلة الفخار واستخدمت في وقت مبكر جدا في الشرق الأوسط، قبل عام 3000 ق. م، وهكذا أصبحت القطع التالية تنتج بكميات هائلة، وأصبحت رائعة من الناحية التقنية، لكنها لم تعد منتجات فنية فردانية. مع ذلك، فحين تتناول بيدك كأس شراب عادي فإنك ترى ما رآه الخزاف عندما خرج من الفرن قبل آلاف السنين، وتحس بما أحس به الشارب وهو يرفعه إلى شفتيه. إن وظيفة عالم الآثار الميداني هي الوظيفة الأقل بريقًا بين الوظائف الأخرى المتعلقة بالتراث، حيث تقضي أياما في التراب والحر والمطر والبرد، لكن الجائزة التي تنالها هي العلاقة المباشرة مع منتجات يدوية يرجع تاريخها إلى آلاف السنين، ظلت كما تركها أصحابها، لا تفصل بينكما خزانة زجاجية ولا صندوق من الورق المقوى.
لا بد وأننا فقدنا الكثير من القطع الفخارية الأكبر حجما. وتعد تماثيل الأسود الحارسة في معبد “شادوبوم” العظيم الذي يرجع تاريخه إلى الحضارة البابلية (تل حرمل حاليا، داخل مدينة بغداد) من بين القطع القليلة التي نجت.
مع ذلك، فإن القطع الصغيرة وفيرة العدد. في عملية التنقيب الأخيرة التي قمنا بها بالقرب من منطقة أور (في “تل خيبر” www.urarchaeology.org) اكتشفنا مجمعا إداريا محصنا، كان يشغله موظفون وجنود. لم يكن ذلك المجمع ثريا بالأعمال الفنية، وإن ترك لنا القليل من المصنوعات اليدوية التي لا تتلف بسهولة، مع ذلك فقد كانت من بين القطع الناجية ألواح صغيرة مصبوبة من الصلصال، منقوش على كل منها بالنحت البارز صور بشرية. تلك الألواح ظلت مستخدمة على مدى زمني طويل، لكنها شاعت على وجه الخصوص في الألفية الثانية قبل الميلاد. وكان يُرسم عليها أحيانا حيوانات ووحوش، بل وأحيانا مناظر جماع بين زوجين، لكن ألواح مجموعتنا كان منقوش على كل منها شخص واحد.
كان الكثير من الأشياء الأخيرة الأخرى يصنع من الصلصال أيضا: حيوانات صغيرة- ربما كانت ألعابا- والكثير من الأدوات المنزلية. بل إننا عثرنا على خشاخيش. وقد استطاعت إحدى مراكز الأشعة السينية في الناصرية التقاط صور فوتوغرافية للكريات الموجودة بداخلها، التي تصدر الأصوات. والمفارقة أن آلات الأشعة السينية الأحدث صُممت كي لا تسمح بمرور جرعة قوية من الأشعة بما يكفي لالتقاط صور كهذه!
ربما كانت المنتجات اليدوية الخزفية العراقية الأكثر مراوغة هي الأقراص المحفور عليها كتابة مسمارية، والمصنوعة عن طريق دمغ الصلصال وهو لا يزال طريا، باستخدام الطرف المثلث من بوصة. وقد استُخدمت هذه الطريقة، التي ابتكرها أصلا المتحدثون بالسومرية، التي لا نعرف لغات تفرعت أو انحدرت منها، من أجل كتابة اللغة الأكادية، التي انبثقت عنها اللهجتان البابلية والأشورية، والتي لها صلة قرابة باللغة العربية، والأرامية، والعبرية. لدينا آلاف مؤلفة من تلك الأقراص محفوظة في متاحف العالم، معظمها ليس له سياق مُثبت. في تل خيبر كنا محظوظين، إذ عثرنا على المكان الذي كان الكتبة يحفظون فيه سجلاتهم. وهكذا، نجد في المتحف العراقي الآن مائتي قرص جديد معروفة المنشأ. وهي تسجل الأنشطة اليومية للمجمع الإداري: كميات الحبوب والطحين المستحقة، التي أُرسلت ثم أُعيد توزيعها، بما في ذلك الحصة المخصصة لـ”القصر”. ونحن نعرف وظائف هؤلاء الموظفين: عمدة، كاتب، طباخ، عامل لغسيل الملابس، بستاني، منادي، خياط وزوجاته الأربعة النسَّاجات، قوات مَلكية مساعدة. وعلى الطريق نتعلم التاريخ: السنة التي تبوأ فيها الملك ” أياداراجالاما” سدة الحكم، وهي سنة 1500 ق. م. وبرغم الطبيعة الوظيفية الجامدة لتلك الأقراص، فإن الخطوط والأحكام المنقوشة عليها تمنحها أناقة متناسقة وبسيطة.
كل هذه الأشياء صُنعت من الأرض، لكن بالنسبة لعالم الآثار فالأرض نفسها هي التي تمنحنا تلك الاستبصارات الثمينة داخل ذواتنا الماضية. إن النماذج المحفورة داخل الأرض هي التي تكشف لنا، إذا فُسرت على نحو سليم، سر المباني المصنوعة من الأرض والمحاطة بالأرض. والمباني تعني الناس الذين يشغلونها، وفيها نجد الأغراض التي خلفوها وراءهم أيا كانت.