هادي النجار (مواليد 1957)، مصور فوتوغرافي معروف في العراق، ورئيس “جمعية المصورين العراقيين” في بغداد. ركز في عمله الأخير، “ما وراء أضواء المدينة”، على المجتمعات المحرومة والمهمشة التي تعيش في أحياء بغداد القديمة. شوارع مثل الرشيد والمتنبي هي آخر الأمثلة الباقية على معمار العصر العثماني في بغداد. كانت هذه المباني فيما مضى بيوتا معظمها مملوك لعائلات يهودية هربت من العراق في الخمسينيات. اليوم أصبح الكثير منها مهجورا أو يسكنه مهاجرون معدمون من جنوب العراق. شارك النجار في معرض مؤسسة رؤيا “نداء كالوست: فوتوغرافيا عراقية جديدة” (2016) في بغداد. وفي هذه المقابلة، يتحدث مع رؤيا عن عمله، والظروف المتغيرة للمصورين الفوتوغرافيين الذين يعملون في بغداد منذ الثمانينيات وإلى يومنا هذا.
في سلسلة أعمالك الأخيرة لماذا قررت التركيز على الماضي الذي عفا عليه الزمن تقريبا، بدلا من الحياة الحضرية المعاصرة في بغداد؟
أنا شخصيا أعشق هذه الأماكن، كما أن الإهمال الكبير الذي طالها أثار عندي الرغبة في تسليط الضوء عليها لكي تلتفت لها الجهات الحكومية. إنها مناطق تراثية، وتتمحور حولها أحداث تاريخية كثيرة. وبالرغم من عدم الاهتمام بها لا زالت تمتلك نفسا حضاريا وجماليا مهما، ولذلك ركزت عليها في أعمالي. وبما أنني عشت طفولتي وأياما كثيرة من حياتي في هذه المناطق قبل أن تتطور المدينة وتتوسع فإنني أجد نفسي قريبا من الناس في هذه المناطق، وتستهويني هذه البيئة. كما أننا نلاحظ أن معظم الفنانين والأدباء والمخترعين والمثقفين المعروفين من أبناء الطبقات الفقيرة في هذه المناطق.
برأيك، هل هناك مشاكل اخلاقية في تصوير المعاناة والفقر في المناطق المهمشة بطريقة تعطي لوحات جميلة بصريا؟
بالنسبة لي أفضِّل تسميتها المناطق المهملة بدلا من المناطق المهمشة. فالقسم الأكبر من سكان هذه المناطق لهم جذور تمتد لمئات السنين في هذا الجزء من بغداد. وأنا أحاول جذب الاهتمام وتسليط الضوء عليهم، وأحرص على أن أفعل ذلك بطريقة تحفظ كرامتهم، وتظهر الفقر كعنصر قوة وليس عنصر ضعف لديهم. هكذا لا أركز على الأشخاص بقدر ما أركز على ما يحيط بهم، والذي يمثل إشارات أو إيحاءات عن طبيعة الحياة التي يعيشونها. مثلا في أحد أعمالي القريبة جدا من قلبي، أصور رجلا كبير السن في الزاوية السفلى للصورة وخلفه جدار عال من الطابوق، والحيز الأكبر في الصورة تشغله السلع التي يعرضها للبيع، وهي لعب أطفال. مجرد التفكير في هذا الشيخ ولماذا يبيع هذه الألعاب يعطي للمتلقي فسحة من التفكير والتأمل. هذا ما أعمل لأجله، أن أترك شعورا لدى المتلقي، وفرصة للتأمل في العمل الذي أمامه. لذلك تجد في كل أعمالي ومضات ضوء أو شعاع ضوء للإيحاء بالأمل والتفاؤل. رغم سوداوية اللوحة أو المنظر.
صورك الفوتوغرافية معروفة بطابعها السينمائي، فبمن تأثرت من السينمائيين؟
المخرج المصري “يوسف شاهين”، تأثرت به كثيرا لامتلاكه الوعي بمشاكل الناس والقدرة على معالجتها بطريقة سينمائية رائعة ومؤثرة. وأُعجبت أيضا بالمصور السينمائي الانكليزي “جاك هلديارد” مدير التصوير في أفلام المخرج السوري المعروف “مصطفى العقاد”. ومن الأفلام التي تأثرت بها فيلم “شاوه” للمخرج الفرنسي “كلود لونزمان” الذي يتناول النازية واضطهاد اليهود، وقد شاهدته أكثر من مرة لإخراجه الرائع والتصوير المميز. ومن المصورين العراقيين الفنان الراحل “مراد الداغستاني”، والمصور “فؤاد شاكر” الذي كان من المعجبين بأعمالي ودائم التشجيع لي، وكان مثلي مهتما بالمناطق العشوائية والمهملة في بغداد. ومن المصورين الأجانب “أنسل آدمز”، وتصويره بالأبيض والأسود، فعندما تشاهد أعماله تراها كأنها ملونة، وكان يخرج التونات السبعة بكامل تفاصيلها.
بصفتك رئيسا لجمعية المصورين في بغداد، كيف تأمل أن تحفِّز مشهد التصوير المحلي والسوق؟
للأسف الجهات الأكاديمية والتعليمية في البلد فيها ضعف كبير في الجانب العملي، ولذلك نحاول أن نعوض هذا الضعف من خلال الدورات والورش، ونعمل على ترسيخ ثقافة الوعي، وزيادة المعلومات عن الجانب التقني والتكنولوجي، إضافة إلى التدريب على التكوين والجوانب الفنية. ونقوم بإعداد وتنظيم المعرض السنوي لجمعية المصورين العراقيين، وهو الآن في دورته الثالثة والأربعين ويقام في قاعة “كولبنكيان”. ونحرص على الاستعانة بمحكمين على مستوى عال، واختيار أعمال جيدة ورصينة وتستوفي الشروط الفنية. مثلا عندما تقدم مصورون من محافظة ديالي بسبعين عملا لم يُقبل أي عمل، مما جعلهم يغضبون ويحتجون، لكن المهم عندنا هو نوعية الأعمال ومستواها وليس عددها. كذلك ننظم سفرات تصويرية مثلا إلى كردستان شمال العراق، وإلى الأهوار جنوب العراق، ورحلات لتصوير مواسم حصاد الحنطة أو النخيل، حتى نشجع على تصوير كل أنماط الحياة اليومية في العراق، ونحث المصورين على المشاركة في المعارض الإقليمية والدولية. ففي مشاركاتنا الأخيرة خارج العراق شاركنا بعشرين مصورا في المعرض الذي أقيم في السعودية، في حين شاركت مصر بثلاثة مصورين فقط. وقد خلق لنا دعمنا للمصورين الشبان بعض المشاكل مع مصورين معروفين لأن أعمالهم لم تقبل للمشاركة في المعارض الدولية.
في التسعينيات، كيف تطور التصوير الفوتوغرافي كوسيط فني مستقل، بالرغم من الحظر والرقابة؟
كان من الصعب إقامة معرض شخصي في ذلك الوقت لشح المواد بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلد والرقابة الحكومية الصارمة على كل ما ينشر. كثير من المصورين التقطوا صورا للانتفاضة والخراب واعتداءات النظام على المواطنين، لكنهم أخفوها حتى عن أقرب المقربين لهم، خوفا من أن تعرضهم لعقوبات النظام، التي كانت تصل أكثر الأحيان إلى الإعدام بتهمة الخيانة والتجسس لدولة أجنبية. وأنا كنت أعرف شخصيا الكثير من هؤلاء المصورين، وكنت من ضمنهم، ولدي الكثير من الأعمال التي توثق تلك المرحلة فيها صور عن التخريب والحرق والجثث والاعتداءات على المراقد ومشاهد من أساليب النظام ضد الشعب، وقد خبأتها في حينها ولم أستطع نشرها في أي مكان حرصا على سلامتي وسلامة عائلتي.
وهل عرضتها على أي شخص من وقتها؟
بعد عام 2003 مباشرة أقمت معرضا شخصيا فيه أعمال من هذا النوع في قاعة “حوار” في بغداد، وكانت الأعمال تُظهر الإهمال والخراب. أما بخصوص الأعمال المتعلقة بانتفاضة التسعينيات فلم أعرضها لحد الآن وأحتفظ بها.
كيف تغيرت ظروف المصور بعد 2003؟
بعد سقوط النظام مباشرة كان هناك تفاؤل بالخير وشعور جيد بالتغيير، لكن للأسف شاهدنا أن الشارع هو الذي أصبح يقيد المصور وليس النظام، وأن الفوضى وفراغ السلطة تتسبب في عدم تطبيق القانون الذي يحمي المواطن، حيث أصبح كل شخص في الشارع يستطيع محاسبتك. أنا مرخص للتصوير، لكن يمكن أن أتعرض لمضايقات وتجاوزات في الشارع. عموما المصور الآن له مساحة كبيرة في الحرية وتناول أي موضوع يشاء، لكنه مقيد ببعض التحديد مع الموضوعات التي تتعارض مع الدين والأعراف العشائرية في المجتمع. في معرضي الأخير مثلا، استعنت ببعض الوجهاء في المناطق التي كنت أصورها لتسهيل عملية التجول وسط أماكنهم.
ما هي التحديات الجديدة التي تواجه المصورين الشبان والناشئين في العراق؟
أولا، غياب وجود مؤسسات أو جهة أكاديمية رصينة لرعاية شباب المصورين الموهوبين، وكليات الفنون الحكومية لا تمتلك فرعا لتدريب علم التصوير الفوتوغرافي والرعاية المنهجية للمواهب، إضافة إلى أن هناك قطيعة بين الجيل القديم- أي الرواد وتلاميذهم- والجيل الحالي، وهذا لعدة أسباب منها قلة التثقيف في هذا الجانب، والجيل الحالي من الشباب لا يبادر إلى تبادل المعلومات من الجيل القديم ويستهين بأعمالهم من منطلق المقارنة مع ما يُنشر من الفنون الحديثة، ويعتبرون أسلوبهم بائدا ولا يواكب الحداثة. ونصيحة لهذا الجيل أولا أن يطور لغته الإنكليزية لأن أكثر الكتب والدراسات حول الفن الحديث باللغة الانكليزية. وثانيا، أن يطور الجانب التقني لديه ولا يجمد في مكانه ولا يستعجل في طرح تجربته. وأن يتخلى عن التصور الخاطئ أن امتلاك آلة متطورة يجعل منه متطورا. فالمهم هو الفكرة والمعرفة، والآلة فقط تساعد على تطبيق تلك الأفكار وليس العكس. ومعظم الأعمال الرائعة صورت بأدوات قديمة.
ما هي الفروق بين المصور الصحفي والمصور الفني؟
المصور الصحفي يبحث عن صورة الحدث الراهن الذي يغطي الأخبار، وبمرور الوقت يقل الاهتمام بموضوع الصورة. فمثلا صورة الطفل السوري الغريق على الشاطئ، عندما تعرضها كعمل فني، ليست لها مستوى فني عال، فقط لحسن حظ المصور أنه كان موجودا في تلك اللحظة. إنها لقطة صحفية فقط وسوف تنتهي بنهاية الحدث. أما المصور الفني فيبحث عن موقف أو لحظة يخلدها لتدوم. المصور الصحفي يجب أن يكون لماحا وسريع الملاحظة، وهو لا يستطيع أن يصنع الحدث. أما المصور الفني فيأخذ وقتا لتصوير العمل ويسترخي لالتقاط الصورة وفي بعض الأحيان يتدخل في التكوين لزيادة التأثير في الصورة.