نشأت عفيفة لعيبي (المولودة في البصرة عام 1952) في أسرة فنية وثقافية، حيث مارست التصوير الزيتي في سن مبكرة. درست في معهد الفنون الجميلة ببغداد وعملت رسامة في الصحافة العراقية. في عام 1974، غادرت العراق إلى الاتحاد السوفييتي للدراسة في معهد سوريكوف بموسكو. وفي 1981، وبعد أن عجزت عن العودة إلى العراق بسبب الأوضاع السياسية، انتقلت إلى إيطاليا، وبعدها إلى اليمن، حيث درَّست في معهد الفنون الجميلة في عدن. وقد ساهمت لعيبي في أنشطة ثقافية بغرض دعم الحركات الديمقراطية العراقية والعالمية، وفي الصراع ضد الإرهاب والعنصرية والحرب والديكتاتورية. كذلك شاركت في العديد من المعارض الفنية من بغداد إلى موسكو إلى اليمن وإيطاليا وسوريا ولبنان وانجلترا والولايات المتحدة. وتعيش لعيبي وتعمل في هولندا منذ منتصف التسعينيات. وقد قدم متحف “كاترينا جاستوش” في مدينة “جودا” معرضا استعاديا لأعمالها عام 1999، كما تعرض أعمالها بشكل دوري في جاليري “دي توي بون” في لاهاي.
سافرتِ كثيرا، وأعمالك تجمع بين تأثيرات مختلفة: من لوحات النهضة إلى الأيقونات الدينية والواقعية الاشتراكية. مع ذلك، فوسط كل هذه التأثيرات، تظل النساء والجسد الأنثوي موتيفات متكررة في أعمالك. ما هو الدور الذي تلعبه المرأة في لوحاتك؟
كثيرا ما يوجه إليَّ هذا السؤال وقد كتبت عن هذا الأمر سابقا في دوريات فنية. أولويتي في التصوير هي تقديم فكرة أو رسالة محددة. يمكن أن تكون تأملا في الجمال، في الذوق، في السياسة، أو في المجتمع. أستخدم الجسد الأنثوي كوسيط يساعدني في توصيل هذه الفكرة. النساء بوصفهن هيئات إنسانية يمتلكن شيئا خاصا لا يوجد في الرجال: الطريقة التي يتحركن بها والجمال الذي يتمتعن به. ربما تتطرق أعمالي في بعض الأوقات إلى قضايا نسائية، لكنني لا أقصد أن تكون بيانا نسويا.
نشأتِ في أسرة من الفنانين، كيف أثر ذلك في مسيرتك؟
منذ طفولتي وأنا محاطة بالفن. نشأت في بيت منفتح يعتنق التقاليد الفنية الأوروبية وكانت في متناول يدي كتب عن الفن من أوروبا وروسيا. أنا ابنة أسرة من الفنانين والموسيقيين، وكنت الأصغر بينهم. كل الأطفال كانوا يرسمون، لكن عندما يشب الطفل في بيت فني فإنه يعرف منذ نعومة أظافره أي مسار يسلك. أخي، الفنان فيصل لعيبي ساعدني على التقدم لمعهد الفنون الجميلة في بغداد بعد المرحلة الثانوية، ويظل أكثر من أثر في أعمالي إلى يومنا هذا.
كيف كان المشهد الفني في بغداد عندما كنت طالبة هناك؟
معهد الفنون الجميلة في بغداد كان يجتذب طلابا يتمتعون باهتمام جدي بالفنون. وكان كل أساتذتنا قد درسوا في الخارج في فرنسا وإيطاليا والاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة. كانوا يتمتعون بخبرة وثقافة كبيرتين. وأنا كنت أقرأ كثيرا لأنه لم تكن لدينا متاحف. لم يكن في تلك المدينة إلا القليل من المؤسسات العامة. في ذلك الوقت، كان منبى كولبنكيان يعرض أعمال فنانين عراقيين من الخمسينيات فصاعدا. مع ذلك كان هناك نشاط فني حقيقي في المدينة، وكان لذلك أثر كبير على الطلاب الذين كانوا يتمتعون بالطموح والشغف والرغبة في النجاح. تعلمت من الأساتذة العراقيين، مثل النحات ميران السعدي، وفنان الجرافيك رافع الناصري. والمصور رسول علوان كان رائعا وكريما في الإغداق علينا بمعرفته. كانت العلاقة طيبة بين المدرسين وطلابهم. كنت طالبة جيدة، خاصة بالنسبة لسني، وكانت لدي رغبة عظيمة في التعلم والتطور.
هل بقيتِ في بغداد لممارسة حياتك كفنانة؟
عندما كنت أدرس، عملت رسامة في مجلتي “صحافة الأطفال” و”المزمار للأطفال”. كذلك ساهمت في مجلات ثقافية للشباب ومجلات للمرأة. ثم وظفتني صحيفة “طريق الشعب” كأول رسامة بها. رسمت القصائد والروايات وقصصا مسلسلة عن العمل والقضايا الاجتماعية والثقافة العامة.
لماذا انتقلتِ إلى روسيا إذن؟
كنت أحب الأيقونات الروسية وكان لدي دائما حلم الدراسة في روسيا. وكان عبد الله، أصغر أخوتي، قد سافر إلى روما، وفيصل إلى باريس. لذا كان طموحي أن أذهب إلى موسكو. قدمت على منحة في معهد سوريكوف في موسكو، وكان أفضل مدرسة للفنون في الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت. قضيت عاما في موسكو أتعلم الروسية، ثم بدأت دراستي التي استمرت ست سنوات. ومع أنني كنت فنانة تمتلك خبرة بالفعل، كان الأمر أقرب إلى البدء من الصفر في معهد سوريكوف: علمونا كيف نطور الأفكار بجدية قبل أن نضع الزيت على الكانفاس.
شهدت السبعينيات والثمانينيات الكثير استقرار الكثير من الشيوعيين العراقيين في روسيا والاتحاد السوفييتي، ما خلق مجتمعا من المثقفين في الشتات. هل كانت لك صلة بتلك الدوائر؟
الكثير ممن نفاهم النظام العراقي كانوا يعيشون في موسكو وغيرها من البلدان الاشتراكية مثل الكاتبين غائب طعمة فرمان وفايز الزبيدي والصحفي جلال الماشطة. بعضهم جاءوا للدراسة بمنح حكومية، وآخرون استغلوا دراساتهم كفرصة للذهاب إلى المنفى. هذا المجتمع انعزل وتفكك تدريجيا في جميع أرجاء العالم. كنت أرافق المثقفين والكتاب في موسكو. ولدي ذكريات عن أوقاتنا هناك. كانت مرحلة مهمة في حياتي.
في موسكو، تخصصتِ في الجداريات والنصب التذكارية، فما الذي اجتذبك إلى هذا النوع من الفنون؟
بالنسبة لي، الجداريات وغيرها من أشكال الفنون العلنية مثل “الفترينات” والموزاييك والرسم على الجص هي فنون الناس. إنها أشكال فنية متاحة أمام الناس ليتذوقوها ويعقدوا صلات معها. فهي تظهر على بنايات عامة، في الشوارع، في الكنائس والجوامع. هذه الأعمال حاضرة في حياة الناس. في الفنون الجميلة تستطيعين الرسم على الكانفاس، لكن هذا سيظل محدودا بجدران ستوديو الفنان، أو بيت جامع الأعمال الفنية، أو المتحف. لطالما أحببت الأيقونات وفنون الموزاييك الروسية، لكن جزء من طموحي كان أن أرسم وأعمل على مساحات واسعة، وأن أخلق فنا للمجال العام. الجداريات والنصب التذكارية ليست عمل فنان واحد. هناك فنان واحد، “الأسطى” كما يسمونه في العراق، لكنه يدير فريقا. عندما شيد جواد سليم نصب الحرية عمل مع فريق من أجل تنفيذ رؤيته.
هل كنت تبدعين أية أعمال فنية عامة في موسكو في ذلك الوقت؟
لم تتوفر لي فرصة الاحتراف في موسكو. فبعدما أنهيت دراستي، كان علي أن أغادر، إذ لم أكن أملك لا وظيفة ولا راتبا. كانت أوقاتا عصيبة بالنسبة لنا نحن الفنانين العراقيين في الاتحاد السوفييتي. وبسبب الوضع السياسي في بلادنا، لم يكن لدينا موطنا، ولم نكن نعرف إلى أين نذهب. في ذلك الوقت كنت متزوجة منذ نحو عام من فنان عراقي يعيش في إيطاليا، فانتقلت للعيش معه. هناك، أخذت استراحة قصيرة من صناعة الفن، وقضيت أيامي أكتشف التراث الثقافي الثري للبلاد. شوارع روما كانت أشبه بمتحف كبير.
تتحدثين عن الفنون الدينية مثل الأيقونات الروسية ورسوم عصر النهضة، ولكن في الوقت الذي كنت تمارسين فيه التصوير في السبعينيات والثمانينيات في بغداد وموسكو، كان يُنظر إلى الفن بوصفه أداة للتقدمية السياسية. فما هو دور الفنان في رأيك؟
كما نقول دائما، دور الفنان هو إعادة بناء الأشياء التي نراها من حونا. الفنان يعيد خلق الأشياء وتقديمها للناس بطريقة جديدة. وعليه أو عليها أن يأخذ في اعتباره الأوضاع السياسية التي يمكن أن تلعب دورا مهما في المجالين العام والسياسي. في السابق كان الفنان رساما للأيقونات والكنائس. كانت موضوعاته متعلقة بالكنيسة والدين. مع ذلك، كما يظهر لنا التاريخ، فقد قدم أيضا أعمالا تتعلق بالجمال والدهشة والذوق. مفهوم الدين كان ثريا بأفكار وإحالات أخرى. في تاريخنا الحديث، استطاع فنانون مكسيكيون مثل “دييجو ريفيرا” و”فريدا كالو” إبداع أعمال سياسية تتعلق بالحياة اليومية للعمال والناس العاديين. كانت الموضوعات الرئيسية لأعمالهم ذات صبغة سياسية، لكنها كانت أيضا غنية بأفكار أخرى مثل الجمال. مثل هؤلاء الفنانين يساعدون في توسيع مدارك الناس، عن طريق طرح أفكار جديدة، أو صورة جديدة عن الأشياء التي من حولنا.
متى عدتِ إلى العراق؟ وكيف وجدتِه؟
غادرت العراق عام 1974، وعدت إليه عام 2004، بعد سقوط النظام. وجدته مدمرا وشديد الكآبة. عندما غادرت العراق، كان بلدا نظيفا ومنظما. كانت هناك ثقافة، كان هناك فن، كانت هناك موسيقى، حياة اجتماعية طيبة ومجتمع منفتح. عندما عدت إلى العراق عام 2004، كل هذه الأشياء التي نشأت عليها كانت قد انتهت: اندثرت، أو لم يعد لها وجود في الحياة العامة. كان الدمار في كل مكان: كنا قد خضنا الحرب الإيرانية العراقية لثمان سنوات، وبعدها حرب الخليج وما تلاها. العراق الذي وجدته، وهو عراق اليوم، كان محطما ومنكوبا. لم أكن الراحة في زيارتي.
هل تراودك فكرة مواصلة العمل كفنانة في البصرة أو العراق اليوم؟
ليس لدي سبب يدعوني للعودة إلى العراق. لقد اعتدت على الذهاب لزيارة أختي، لكنها توفيت العام الماضي. في البصرة لا أستطيع السير بحرية في الشوارع لغياب الأمن. الحكومة فاسدة ولا تستطيع حمايتنا. أما بالنسبة للفنانين الآخرين الذين التقيتهم في البصرة، فلا أستطيع أن أقيم علاقات معهم. بعضهم شديد التدين في مظهره. ليست هناك مساحة للحرية، إذا طرحت أفكارك وآرائك، لا ينصتون إليك. لن يقبلوك لأنك مختلفة عنهم. البصرة التي نشأت فيها كانت منفتحة ومتنوعة. عندما كنت مراهقة، قرأت ترجمات للأدب الأوروبي وشاهدت أفلاما أوروبية. كنا متآلفين مع الثقافات الأخرى. ولم أشعر بأي معوقات أو حواجز عندما وصلت إلى أوروبا. لكن العراقيين الذين يأتون إلى أوروبا اليوم يشعرون بهذه الهوة، يكافحون من أجل عقد صلة مع العالم الجديد، إذ عاشوا لسنوات في حالة من العزلة.
كيف ساعد الشتات العراقي في تشكيل الفن العراقي إلى يومنا هذا؟
عندما وصلت إلى إيطاليا للمرة الأولى، كنا مجموعة كبيرة من الفنانين العراقيين في روما وفلورنسا وميلان. كنا متعلمين تعليما عاليا ولدينا طموحات حقيقية فيما يخص الفن العراقي. كنت جزءا من المجموعة وأردت المساهمة، مساعدة الفن العراقي والعراقيين. كل هذه النوايا الطيبة تلاشت مع الوقت بسبب تطور الأوضاع السياسية. حتى العراقيون الذين يعيشون في الخارج تأثروا بالأجواء في العراق. ظهرت انقسامات فيما بيننا لم تكن موجودة من قبل. أثناء الحرب الإيرانية العراقية كنا جميعا عراقيين يعارضون الحرب ويريدون لها أن تنتهي. بعد حرب الخليج، نزحت موجة من اللاجئين من العراق إلى أوروبا. كانوا مختلفين في تعليمهم وخبراتهم. تغيرت الأمور. لم نعد عراقيين، ولكن شيعة وسنة وتركمان وترك ومسيحيين وكاثوليك إلى آخره… وأنا أجد صعوبة في التعايش مع هذه الأجواء، والآن أصبحت أقل انخراطا في مجتمع المهاجرين العراقيين.
ما الذي يجعلك تمارسين التصوير اليوم؟ هل لا زلت تحاولين تطوير الفن العراقي؟
أمارس التصوير لإثراء حياتي يوما بعد يوم. إنه يساعدني، وأرسم عندما أشعر برغبة في الرسم. الأمر الأهم بالنسبة لي هو أن أظل أعمل وأن أتبع رؤيتي. ليس التراث العراقي وحده هو الذي يلهم أعمالي. أنا مؤمنة بأن الفن يوحِّد، ومن ثم لا أسمي نفسي فنانة عراقية. أنا امرأة ترسم وتبدع فنا للجميع.