في عملها المركب “إلى أن يميل النهر تسعين درجة باتجاه الغرب” المخصص للمشاركة في جناح العتيق العراقي ببينالي فينسيا السابع والخمسين، تتأمل الفنانة العراقية المقيمة في برلين نادين حاتم تاريخها العائلي والتراثات العتيقة لمجتمع المندائيين الذي نشأت فيه. المندائيون جماعة دينية من جنوب العراق ترتبط شعائرهم ارتباطا وثيقا بالماء ويكنُّون إجلالا خاصا ليوحنا المعمدان. في ما يلي تتحدث نادين حاتم مع رؤية حول بحثها في دين الميندائيين ومجتمعهم.
التقطت الصور في العراق في وقت سابق من العام الحالي بعدسة المصور المقيم في بغداد أيمن الأميري.
المندائيون قوم يتكتّمون على دينهم. فليس لغير القساوسة المعتمدين اطلاع على النصوص المقدسة والتعاليم. وعلى مدار قرون ظل المندائيون في العراق يحظون بالحماية والاعتراف بهم باعتبارهم من “أهل الكتاب”. إذ يصف القرآن المندائيين بوصفهم من نسل الصابئة المعروفين على المستوى الشعبي في العراق بـ “الصبه”. غير أن المندائيين مقموعون أيضا بسبب عقائدهم المتصادمة مع الإسلام والمسيحية. تتذكر أمي ـ وقد نشأت في بغداد ـ أن أبويها كانا يدعوانها إلى الصمت عن كل ما يتعلق بدينها. فلما أردت أن أعرف من عائلتي شيئا عن ديننا وجدتهم لا يعرفون عنه إلا القليل.
“إلى أن يميل النهر تسعين درجة باتجاه الغرب” عمل عن أسرتي ورحلتها في العالم. تبدأ من قرية الحلفاية الصغيرة على ضفة النهر وتستمر إلى بغداد، وأبو ظبي، وأستراليا. استعملت في هذا العمل صورا فوتغرافية من ألبومات أسرتي، وبطريقة رقمية أزحت منها الأشخاص فلم يبق غير الآفاق. ويتضمن هذا الكولاج أيضا موتيفات ورسومات تخطيطية من كتاب الأنهار، وهو كتاب مندائي مقدس. أنتجت منحوتات من الصلصال، بينها قوارب صغيرة، مستلهمة الأغراض الصلصالية التي يتعبّد بها المندائيون وكذلك القوارب الأثرية المعروضة في الجناح.
لإنتاج هذا العمل استشرت عددا من المصادر. اتصلت بقساوسة، وأكاديميين، وقرأت دراسات عن المندائيين. حاورت أفرادا من العائلة واستعرضت صورا عائلية. تتبعت بعض رحلات أسلافي عبر خرائط جوجول، واستعملت فيديوهات من يوتيوب للمقارنة بين الذكريات والحاضر.
في البداية اتصلت بيوهانا نشمي وهو فنان وخطاط مقيم في سيدني سبق أن عمل رجل دينسا مندائيا. كان نشمي قد أصبح من رجال الدين في عام 1997 ثم سرعان ما غادر العراق بعد ذلك. وبسبب خلافات مع الزعامة المندائية، تنحى في عام 2012. واليوم يوثِّق نشمي للطقوس والشعائر الخاصة بالمندائيين في أستراليا، بالتعاون مع جامعة إيكستر في المملكة المتحدة. وبينما كان يصف لي الأغراض التي تستعمل في التعبد شعرت بما لديه من فضول تجاه مشروعي وتجاهي.
أقدم تمثيل للمندائيين في الغرب نجده في كتاب في أدب الرحلات لفرانسوا دي لابولاي لو جوز صدر سنة 1657 بعنوان “رحلات وملاحظات” [Les Voyages et Observations]. بعده ترجمت الرحالة البريطانية ليدي إيتيل ستيفانا دراور النصوص المندائية المقدسة من قبيل Qolasta and the Haran Gwaitha. وجمعت لفائف من Diuan Nahrauata [أي: كتاب الأنهار] المحفوظ حاليا في مكتبة بودلين. يتذكر أبي حينما كان طفلا أنه كان يذهب إلى كوخ أحد القساوسة في قريته الحلفاية فيريه القس الموضع الذي كانت تجلس فيه ليدي دراور.
غادرت أسرتنا العراق إلى أبو ظبي في أثناء الحرب الإيرانية العراقية ليتجنب أبي الخدمة العسكرية. غير أن كثيرا من مندائيي العراق أصبحوا لاجئين في التسعينيات نتيجة لحرب الخليج الأولى. وبسبب تكتم المندائيين الشديد لم يعرف بهم أحد في الغرب فظن الكثيرون أن الدين غير موجود أصلا. وصار عليهم أن يناضلوا مرة أخرى من أجل هويتهم.
ومن أجل أن أستثير ذكريات أبي عن بغداد وأؤصلها، بعثت إليه فيديوهات من موقع يوتيوب لقربة الحلفاية المعروفة اليوم بالمشرح. سألته إن كان شكلها لم يتغير. فقال “لا. بل تقتفين النهر إلى أن يميل تسعين درجة باتجاه الغرب”. وتحققت من ذلك عبر خرائط جوجول إيرث: فإذا بالنهر لا يميل باتجاه الغرب، بل باتجاه الشمال.
الذاكرة بطبيعتها معيبة وفي ذلك تكمن إنسانيتها. فهل أصحح لأبي؟ أم أقبل ذاكرته المعيبة وأحيلها جزءا من عملي؟ اخترت الخيار الأخير. صارت التفصيلات التاريخية أو الجغرافية المغلوطة جزءا من العمل، مؤنسنة نظرتنا إلى الماضي.
كتاب الأنهار أطلس للعالم يفتقر إلى الدقة الجغرافية. استعملت موتيفاته في العمل المركب كخريطة للإبجار وسط هذه الذكريات والصور والأماكن المتفاوتة. ومن خلال الكولاج، وهو وسيط مركزي في هذا العمل، أجمع بين أشياء لا علاقة بالضرورة لبعضها ببعض. كما أنني تأثرت بـ War Primer II للفنانين بومبيرج وتشانارين. فقد عمدا إلى تركيب صور من حرب العراق سنة 2003 على War Primer لبرتولد بريخت، وهو كتاب كولاجات عن الحرب العالمية الثانية. قصاصات الورق تمثل ألم التشرد، والوجود في أفق دون سواه.
وعلاوة على الصور، أنتجت منحوتات صلالصية لهذا العمل الجديد. فمن خلال حوارات مع أمي وأبي، علمت أن جديهما كانا يعملان في صناعة القوارب، ولذلك فإن اثنتين من المنحوتات تتخذان شكل القوارب. وقد رجعت بصفة خاصة إلى رسومات ليدي دراور للأشكال الصلصالية التي كان يستعملها المندائيون. فجاءت القوارب الصلصالية التي أنتجتها شديدة الشبه بالتي رأيتها لاحقا في توثيق يوهانان نشمي للشعائر المندائية على نهر نيبيان بأستراليا. لا أتذكر شخصيا أنني رأيت هذه الأشكال الصلصالية من قبل، برغم أنني لا بد أن أكون قد رأيتها، ولا بد أن تكون قد كمنت في موضع ما من ذاكرتي.
قبل إنتاجي هذا العمل، لم أكن أعرف أصلا أين ولد أبي. لكن أشياء كثيرة تكشفت لي من خلال العمل على هذا التكليف. بدأ أقاربي يتصلون بي من أماكن كثيرة في العالم ليتعرفوا بالدين المندائي. وفي طريق عودتي بالسيارة من فينسيا إلى برلين، حكى لي أبي للمرة الأولى سبب رحيلهم عن بغداد، وكيف كان فراره هو وأمي وطفلين صغيرين. ولما وصلنا إلى الاستديو الخاص بي سألني إن كان بوسعه أن يأخذ بعض المنحوتات الصلصالية لجدتي. فسألته “أتستعملها؟” فكان جوابه “طبعا”.