الإبداع وسط الصراع

كُلفت تمارا جلبي، رئيسة مؤسسة رؤيا للفن المعاصر في العراق، بإنشاء الجناح الوطني في بينالي فينيسيا. وتحدثنا هنا عن كيفية العثور على الفنانين في بلاد مزقتها الحروب، وعن انتصار الإبداع بالرغم من كل الصعوبات.

أجرى المقابلة: جوناثان باستبل

Screen Shot 2015-10-23 at 16.30.41

قبل مناقشة موضوع البينالي، هل يمكنك أن ترسمي لنا صورة للمشهد الفني الحالي في العراق؟

تمارا جلبي: تواجد العراق في فينيسيا في حد ذاته يقول الكثير. لكن العراق ليست وحدها في ذلك؛ فهناك الكثير من المناطق التي تتعامل مع قضايا الحرب والإبداع في الشرق الأوسط. ربما لا تتخذ مكانا مناسبا في عالم الفن بفتنته وأضوائه، لكن الفن الذي ينتج في مثل هذه الأوضاع يصل إلى عمق الحالة الإنسانية. في العراق- سواء في بغداد أو كردستان أو الجنوب- ليس هناك سوق للفن يمكن الحديث عنه. والجاليريهات القليلة المتفرقة ليست جاليريهات بمعنى الكلمة المتعارف عليه دوليا. إنها لا تمثل فنانين بعينهم، ولا تفهم الدور المنوط بها، المتمثل في تقديم فنانين جدد.

ثم انظر إلى مدارس الفنون التي تديرها الحكومة، ستجد أن مناهجها لم تتغير منذ السبعينيات. وهي تعمل مثل مدارس الفنون الجميلة في بدايات القرن الماضي. وحتى هذا الأسلوب في التدريس أخذ يتدهور بسبب الوضع الأمني: الآن ليس بإمكانك استئجار موديل عاري، على سبيل المثال. لكن أحد الأشياء التي تغيرت منذ] الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في العراق في[ 2003 هو أنك أصبحت ترى الكثير من الطاقات، طلاب متمردون، يرتدون ملابس على الموضة، وكلهم في صراع مع الكلية. هذا أمر صحي للغاية. لكن الكلية تظل بيروقراطية، تكاد تكون ستالينية، منبتة الصلة تماما عن اتجاهات الفن المعاصر اليوم.

تستخدمين كلمة “ستالينية”- والطريقة التي تصفين بها مدارس الفن العراقي تذكرنا بالأيام الأخيرة للاتحاد السوفييتي، عندما كان عموم طلاب الفن ضد النظام وعبروا عن عدم رضاهم من خلال ملبسهم، ومسلكهم، وموسيقاهم.

قصة العراق لها مستويات مختلفة- الحرب وكل ما أعقبها- لكن الناس كثيرا ما ينسون أنه على مدار أكثر من ثلاثة عقود ظل العراق بلدا شموليا، تدير الدولة كل شيء فيه، ووفقا لخطها الاشتراكي. ما حدث في 2003 غيَّر الطبقة العلوية. لكن من أسفل لم يتغير شيء. جهاز الدولة لا زال قائما، وإذا لم تكن جزءا منه ستجده يعمل ضدك. لهذا نجد أشياء مثل مناهج الفن على مستوى البلاد غير قابلة للتغيير حتى إشعار آخر.

لا بد أن ذلك دفع بالفنانين الطموحين أو التجريبيين إلى “الأندرجراوند”.

نعم. وإذا كان ثمة جانب مشرق في الأمر، فهو أن هذه الفوضى تخلق فضاءات يمكن للناس أن يجربوا فيها شيئا مختلفا. مع ذلك فقد وجدنا، في تنقيبنا عن الفنانين، أن الكثير منهم متحفظ بشأن عرض أعماله. خذ مثلا سلام عطا صبري، أحد الفنانين المختارين للجناح. لقد عرفته من خلال عمله اليومي مديرا لمتحف بغداد للفن الحديث- لكن لم أكن أعرف أنه يرسم. كان ينجز رسومه في آخر الليل في شقته، في منطقة من البلدة تسودها حروب الشوارع. كان يعمل بأقلام الرصاص وألوان الشمع الخاصة بابنته، يرسم لكي يطمئن باله، لكي يلملم شتات عقله. هناك شيء عصابي ولكنه مؤثر جدا وصادق في أعمال سلام. إنه اكتشاف حقيقي.

ذكرت عبارة “التنقيب عن الفنانين”. كيف تصلين إلى الفنانين الموهوبين في ظل المحدودية الشديدة للبنية التحتية، والخجل الشديد من جانب الفنانين أنفسهم؟

نشرنا الخبر. استخدمنا قنوات رسمية في البداية- الجاليريهات، كليات الفنون والجمعيات المتخصصة- لكننا أجرينا أيضا مكالمات هاتفية، وعلقنا ملصقات، ونقلنا الحديث من فم إلى فم. أرسلنا رسائل إلكترونية ونشرنا على فيسبوك (وهو يتمتع بشعبية واسعة في العراق). لدينا أشخاص مفعمين بالطاقة يعملون في مكتبنا في بغداد. كانت فقط مسألة اصطياد، أن نجمع معلومات عن الفنانين، ونطلب منهم إرسال حافظة أعمالهم. الآن لدينا قاعدة بيانات موسعة تضم أكثر من 300 فنان.

(c) Mathias Depardon.

(c) Mathias Depardon.

وهل اخترتم كل العارضين في الجناح من قاعدة البيانات تلك؟

ثلاثة من الخمسة كانوا في قاعدة البيانات؛ سلام كان واحدا منهم. ثم هناك آكام شيخ هادي، وهو مصور فوتوغرافي كردي تتناول أعماله تنظيم داعش. في صوره يبدو الحبل الأسود مثل حية تتلوى، لكن يتبين أنه راية داعش. أستطيع أن أقول إن عمله مسرحي بالأساس، لأن الإعداد وتصميم الحركات فيه أنجزا بعناية شديدة.

الثالث هو حيدر جبار، الذي رسم تلك الرؤوس المروعة بألوان الماء. وهو أصغر فنان في الجناح. وقد أصيب بكآبة شديدة جراء الحادث المروع الذي وقع الصيف الماضي، عندما قتل 1700 مجند عراقي في معسكر سبايكر على يد مسلحي داعش. كان تأثره عميقا، وبدأ ينجز هذه السلسلة من الرؤوس. كانت الفكرة أن يرسم 1700 رأسا. وقد غادر العراق لأنه لم يستطع تحمل الأمر أكثر من ذلك. وهو الآن يعمل في تركيا، ويعيش على منحة توفرها له مؤسستنا.

على جانب آخر، صادف المدير الفني للجناح، فيليب فان كاوتيرين، مدير لمتحف “سماك” للفن المعاصر في خنت، أعمال لطيف العاني في مؤسسة الصورة العربية في بيروت. وقد التقط العاني معظم صوره الفوتوغرافية بين الخمسينيات والثمانينيات. وتتناول أعماله العراق الذي لم يعد موجودا؛ إنه أرشيف من الذكريات.

ثم هناك رباب غزول، وهي فنانة أدائية تعيش في كرديف. والعمل الذي أبدعته من أجل الجناح يتناول تحقيق العراق ]الذي رأسه السير جون تشيلكوت[. عنصر “الشهادة” موجود في أعمال كل الفنانين المختارين، وتلك الفكرة شديدة الأهمية. ففينيسيا تمثل فرصة لتجسير المسافات- بين العراق وبقية العالم، وبين الفنانين داخل العراق والفنانين في الشتات. ونحن نحاول أن نكون هذا الجسر.

كيف تفهمين عبارة “الجمال غير المرئي”، العنوان الذي أعطاه فيليب فان كاوتيرين للعرض؟ يمكن أن نفهم- كما قلتِ- أن الفن يحدث في العراق، ولكن من الصعب رؤيته. أو يمكن أن يكون تعليقا على الفن المعروض: أن الجمال- مثلا في الرؤوس المقطوعة شبه التجريدية وحية داعش- لا يظهر على سطح تلك الأعمال.

التفسيران صحيحان. وأفكر أيضا أنه تعليق على إمكانية استخراج الجمال من القبح، بل ومن الفجيعة. في وسط الدمار، ستظل الروح الإنسانية دائما قادرة على العثور على شيء تقدمه بطريقة جميلة. لطيف كان مختفيا حرفيا عن المشهد؛ ثم لدينا كفاح الطوائف “غير المرئي” الذي يصوره المصور الكردي- أقصد طوائف مثل اليزيديين، المهددين بالاختفاء عن الوجود والانقراض. ومع حيدر، كما تقول، يتعلق الأمر بالألم والفجيعة اللذين تحولا من خلال الفن- من دون الاحتفاء بالفجيعة- إلى أشياء جميلة، بل وإلى علاج يساهم في الشفاء.

لماذا وقع اختيارك على فيليب فان كاوتيرين ليكون مديرا فنيا للمعرض؟ هل أحسست أنك بحاجة إلى عين أوروبية تنظر إلى الأمر؟

الأمر لا يتعلق بالعين الأوروبية. المسألة أنه ليس ضروريا على الإطلاق أن يكون المدير الفني جزءا من العالم الذي يديره فنيا- لكن القضية تظهر على السطح حين يصبح الكلام عن الشرق الأوسط. لا أحد يطرح أسئلة عندما تكلف امرأة من النرويج بالإشراف الفني على الجناح الدنماركي. إذا كنت تحاول أن تقيم جسرا، فلماذا لا تأتي بشخص من الخارج تماما.

لقد ألقينا نظرة على أعمال مدراء فنيين من جميع أركان الأرض، من اليابان إلى أوروبا ذهابا وإيابا. وهذا ما خرجنا به: ليس هناك مدراء فنيون في العراق؛ بل أن مصطلح المدير الفني curator هو نفسه غريب علينا. ليست هناك كلمة مناظرة في العربية. عليك أن تقول “خبير فني” أو “منتج فني”- بمعنى إنتاج فيلم مثلا. إذا بحثت في القاموس تحت مدخل curator ستجد الترجمة “أمين متحف”. هكذا، فإن فكرة وجود جناح عراقي في حد ذاتها مجازفة، أيا كان من ستلجأ إليه.

لكن فيليب لديه قدرة لا تصدق على الوصول إلى لب الموضوع. وهو يتفاعل بقوة مع الفنانين. والزيارات التي أجريناها في شتى أرجاء العراق كانت قوية ودرامية جدا بالنسبة للفنانين أنفسهم، لأنه يؤمن بدور الفنان واستطاع دفعهم إلى الأمام. عندما كان في بغداد ألقى كلمة عن الفن المعاصر. كان المفترض أن تكون عرض “باور بوينت” قصيرا عن الأشياء التي يحبها، لكننا فوجئنا بحضور نحو 250 فنانا ومنشغلا بالفن لسماعه، وهكذا استمرت الجلسة طوال اليوم. لم يحدث لدينا شيئا كهذا منذ السبعينيات. أحد الحضور، وهو محاضر بإحدى كليات الفنون، قال بعدها: “كنا نظن أن الفن المعاصر حركة ثانوية تحدث على هامش الفن في الغرب”.

في النهاية، كان المقترح الذي تقدم به فيليب هو الأكثر جاذبية؛ وبدا وأنه مناسب لنا تماما. وكلف بالمهمة في أبريل من العام الماضي، قبل داعش (أتكلم عن داعش كثيرا لأنهم غيروا كل شيء)، لكن خطته تبين وأن لها صدى أكبر وأكبر فيما بعد. لقد عشنا لحظات تردد حقيقية- هل نستطيع أصلا إقامة جناح؟ وقررنا أننا يجب أن نفعل ذلك لأنه شكل آخر من أشكال مقاومة أولئك الناس الذين ما إن يحلوا في مكان حتى يبدءوا بتدمير آثاره الثقافية.

إذن أنت تنظرين إلى جناح العراق في بينالي فينيسيا كنوع من التحدي لما تمثله داعش من وحشية إجرامية؟

نعم. هكذا أنظر إليه بكل تأكيد.