“حوارات إقليمية” هي سلسلة جديدة من الموضوعات تقدمها مؤسسة رؤيا، تتناول القضايا المتعلقة بالفن والصراع في المنطقة من خلال عدد من المقابلات، وزيارات لستوديوهات الفنانين، والمقالات، ومعارض الصور على الإنترنت.
يعاني مجد عبد الحميد من الأرق. في المساءات، يظل يبحث في فيديوهات “يوتيوب” وأخبار التلفزيون، يجمع صورا ولقطات فيديو للصراع في سوريا. وفي الصباحات المبكرة، يشاهد الأفلام الوثائقية، ويستمع للنشرات، ويظل يطرِّز، أحيانا لساعات طويلة، قبل أن يذهب إلى الفراش مع شروق الشمس. على مدار العام الماضي، ظل الفنان الفلسطيني المقيم في رام الله يحول صورا فوتوغرافية من الصراع في سوريا إلى قطع تطريز ملونة، ومجردة. “لماذا؟ لأنه لا شيء أكثر حضورا اليوم من العنف”، هكذا يشرح وهو يقلب قهوته أثناء لقاءنا في بيروت. “عالمنا اليوم أكثر عنفا من أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، لكن العنف صار أكثر دهاءً”.
في عمل تطريزي حديث، نرى هيئة رمادية لفتاة بلا ملامح تتحرك باتجاه منتصف منظر طبيعي مجرد. لا يمكن للمشاهد أن يعرف إن كانت تجري ناحيته أم تعدو هاربة منه. الأفق مقسم إلى ثلاثة مستطيلات مصمتة من الفوشيا والتريكواز. وحول هيئة الفتاة، على الأرضية الحمراء المتألقة، ثمة بقع غير متساوية من القماش الأبيض العاري. هذه القطعة هي معالجة لصورة فوتوغرافية التقطت في حلب في 2016، لامرأة تجري وسط صف من أكياس حفظ الجثث. العنف حاضر في الصورة، لكنه غير مرئي. ليس ثمة دماء، ولا أنقاض، ولا انفجارات. هذه السلسلة الجديدة من أعماله، واسمها “سكرين شوتس” (2016)، عرضت مؤخرا في معرض “خيط حرير على خيط حرير” (2016-2017)، الذي أقيم بمركز بيروت للفن، ويرصد استخدام التطريز في الفن المعاصر. وقد اختيرت هذه السلسلة لتعرض في الدورة الأولى من “ترينالي كاتماندو” الذي افتتح في آذار (مارس) الماضي بالعاصمة النيبالية. وهو عمل مشحون بالتساؤلات عن تصوير العنف والنكبات في الأعمال الفنية. كيف يمكن للفنان أن ينقل ويلات الحروب في عالم مشبع بالصور؟ وما هي الآثار الأخلاقية المترتبة على تصوير آلام الآخرين؟
يقول عبد الحميد: “أريد أن أتجنب ‘ابتزاز الصورة’، وأعني بذلك الصور التي تستهدف استثارة رد فعل فوري أخلاقي وعاطفي على كارثة إنسانية ما. محمود درويش يكتب عن هذا الأمر في مقالته ‘البحث عن الطبيعي في اللاطبيعي’، حيث يتساءل، فيما يخص القضية الفلسطينية، كيف تجد العادي فيما هو غير عادي؟'”. هكذا، يشدد عبد الحميد على الاختلاف بين دوره كفنان يتعامل مع الصراع كموضوع، وبين دور الصحافيين والنشطاء وموظفي الإغاثة الإنسانية. “لا أريد أن أوصل الأحداث ببساطة أو أن أكون عميلا للبروباجندا. فالصحافة تغطي الموضوع على نحو مكثف”. ثم يستشهد بمحاضرة “عملية الخلق” للفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين Giorgio Agamben. “أغامبين يقول إن دور الفن ليس توصيل رسالة، بل خلق عمل يقاوم نفسه ذاتها”.
يعد عبد الحميد جزءا من دائرة أوسع من الفنانين، داخل فلسطين وخارجها، ممن يلجؤون إلى الحرف التقليدية بحثا عن وسائل تعبير جديدة. في مكان آخر، نجد الفنان البريطاني الإيراني “فرهاد أهرارنيا” Farhad Ahrarnia، المعروف باقتباس صور من الأخبار، والثقافة الشعبية، وتاريخ الفن، وإعادة إنتاجها باستخدام تقنيات التطريز والزخرفة. يقول عبد الحميد: “التطريز فن عضوي، فن حي. وهو عندنا في فلسطين جزء منا كشعب. نحن لسنا في أوروبا حيث تتوفر الكثير من قاعات العرض المكعبة الكبيرة البيضاء. أنا لا أريد لأعمالي أن تعرض داخل صناديق زجاجية. أريد أن يلمسها الناس، أن يحسوها”. التطريز بالنسبة له احتفاء بما هو عادي، ينجذب إليه مثلما ينجذب للأشياء البسيطة “مثل الملح والقهوة والسكر”. أما المديرتان الفنيتان لمعرض “خيط حرير على خيط حرير”؛ “راشيل ديدمان” Rachel Dedman و”ماري موراكيول”Marie Muracciole فتقدمان تعريفهما الخاص لهذه الحرفة في الفن المعاصر: “طالما كان التطريز ممارسة تعزى للهامش، لذا عندما يدرجها الفنان في عمله الفني… فهو يشتبك مع أسئلة الإنتاج والمعالجة، الدلالة الجندرية، وثنائيات البناء والإخفاء”.
يصف عبد الحميد استخدامه للتطريز بأنه “تدخُّل” في الزمن: “كيف أستطيع تحويل الزمن بصريا؟ أنا أعرف كيف يمر الزمن، لكن كيف أستطيع إيقافه أو الإمساك به؟”. مثل الصور الفوتوغرافية، فإن لوحات التطريز تقبض على لحظات في الزمن وتجمدها. لكنها أيضا تشير إلى عملية بطيئة ومجهدة تتضاءل أمامها آنية الفوتوغرافيا الرقمية. يقول: “عالمنا يتسارع أكثر فأكثر وهذه طريقة لإبطائه”. يعرض عليَّ سلسلة من اللوحات المطرزة تصور الدخان الناجم عن أحد البراميل المتفجرة وهو يتشكل في هيئة فطر (عيش الغراب). “فيديو الانفجار يستمر لبضع ثوان، لكن اللوحة المطرزة تحتاج إلى ساعات من أجل إنتاجها”. أحيانا، يشعر بالاختناق وهو يعمل وحيدا في الليل، يجمع ساعات تلو ساعات من لقطات الفيديو العنيفة ثم يطرز مجموعة منتقاة منها. يقول “أحيانا أشعر مثل رياض الترك، المثقف السوري الذي قضي 18 عاما في السجن. لكي يمرر الوقت كان ينظم حبوب العدس على شراشف سريره في أنماط زخرفية”.
مع ذلك، فإن اعتماد عبد الحميد لتقنيات التطريز التقليدية لا يعجب الكثيرين في المجتمع المحلي. يقول “صديقات أمي يعتقدن أنني أستولي على مهنتهن”. الحرفيون الفلسطينيون في مجال التطريز معروفون بأنماطهم الزخرفية التي تختلف من قرية إلى أخرى، وتقوم منظمات الإغاثة الإنسانية بجهد ملحوظ للحفاظ على التقاليد المحلية. يعرض عليَّ عبد الحميد لوحة مربعة طرزت بخيط أبيض، يمكن أن تُقرأ باعتبارها تحية للوحة فنان الـ”أفان جارد” الروسي كازيمير ماليفيتش Kasimir Malevitch التي تحمل اسم “المربع الأسود” (1915). ويتذكر قائلا: “طلبت من إحدى الحرفيات العجائز أنت تصنع لي هذا المربع الأبيض، لكنها رفضت، مع أنني عرضت أن أدفع لها الثمن. قالت ‘يما، هذا تضييع وقت’. والحقيقة أنني ممتن لها كثيرا، لأنها أجبرتني على أن أنجز العمل بنفسي. وقد استغرق مني 400 ساعة عمل”.
ينظر عبد الحميد إلى أعماله التي تتناول الصراع في سوريا بوصفها محاولة لإعادة سرد القصص التي تحدث في النطاق الإقليمي الأوسع. يقول “نحن بحاجة إلى خلق سردية جديدة وهوية بصرية جمعية جديدة عن أنفسنا. أنا ولدت في دمشق، في مخيم اليرموك للاجئين، لكنني أمتلك جواز سفر أردني. أعيش في رام الله لكنني جالس الآن هنا في بيروت، أتحدث معك. فمن أين أنا؟”. في مجموعة جديدة من القطع الفنية التي لا يزال عبد الحميد يعمل عليها، يركز على الحدود القومية التي رسمتها اتفاقية سايكس-بيكو سنة 1914. يشرح قائلا: “لطالما تكلمنا عن الحلم العربي لعقود طويلة، والمفارقة أن الوحيدين الذين اقتربوا من ذلك الحلم هم داعش. لقد اجتاحوا العراق ومنها اقتحموا سوريا، فأظهروا عبثية تلك الحدود. مفهوم الهوية القومية أدى إلى قمع لم يتكلم الناس عنه قط، غالبا بسبب وجود إسرائيل”. في هذه السلسلة الجديدة يعيد عبد الحميد إنتاج فتات من تلك الحدود باستخدام التقطيب. لقد طور تقنيته الخاصة التي يقوم خلالها بتقطيب طبقات من الخيط الملون بطريقة يتلوى معها القماش ويتعرَّج. وعن ذلك يقول: “عثرت على نسيج خاص بالتطريز يتحلل في الماء. وهكذا لا يبقى إلا الخيط الذي يشكل الحدود”.
هذا الاهتمام بإعادة صياغة السرديات الجمعية والقومية يظهر في الأعمال والأفكار المبكرة لعبد الحميد. يقول: “التقى والداي في سوريا عندما كانا عضوين سريين في منظمة التحرير الفلسطينية. كانا يساريين وثوريين، لذا نشأتُ بهذه الفكرة الرومانسية المتعلقة بتاريخ الأسرة. لكن الآن أصبح والداي ينتقدان هذه السردية بشدة. وكفنان فلسطيني، ينتظر الناس مني أن أنجز أعمالا سياسية تحمل شحنات قوية، وهو ما أراه نوعا من فرض الوصاية”. أعماله التي تتناول فلسطين تركز غالبا على نقد المجتمع من الداخل. في عمله “مسكنات” (2010) قام ببناء نموذج لقبة الصخرة، مستخدما كبسولات من عقار “الترامادول”، الذي يعتمد في تركيبته على المورفين، ولا يُصرف إلا بوصفة طبية. يشرح عبد الحميد: “في فلسطين أصبحت القبة أشبه بمعبود، رمزا للدولة. ستجد صورتها مطبوعة على سلاسل المفاتيح وعلب المنادي الورقية. وعندما يتحدث الرئيس في التلفزيون، تجد صورة للقبة خلفه. على الجانب الآخر، كانت هناك فضيحة كبيرة متعلقة بعقار الترامادول، خاصة في غزة، حيث يتناوله الرجال مع الفياجرا لإطالة زمن الجماع. كانت تلك إذن وسيلة للجمع بين المقدس والمدنس”. استلهم الفنان عمله من الأعمال اليدوية التي كان ينتجها مساجين في السجون الإسرائيلية. يقول: “كثيرون منهم شيدوا ماكيتات صغيرة من الصخرة وأرسلوها إلى آبائهم”.
في الماضي، حين كان طالبا في الأكاديمية الدولية للفنون بفلسطين، ثم لاحقا، عندما كان فنانا مقيما في أكاديمية “سيتي ديزارت” في باريس (2009)، ثم طالبا في أكاديمية “مالمو” للفنون في السويد (2010)، كان يركز على إنتاج أعمال مشحونة سياسيا لكنها ليست “سياسية” على نحو صارخ. على النحو نفسه، في السلسلة التي تناول فيها سوريا، نجد عبد الحميد واضحا بشأن مواقفه السياسية، لكنه يصر على أن تلك المواقف لا تنعكس في أعماله الفنية. يقول “كتبت في وصف هذه السلسلة أن الصراع في سوريا ثورة، ليس حربا أهلية. لكنني لا أنتج فنا احتجاجيا”.
في عالم مشبع بالصور، كثيرا ما يفقد المشاهد أحاسيسه تجاه صور الصراع والمعاناة. والصراع في سوريا على وجه الخصوص أصبح يوصف بأنه “نسخة مرعبة من فيلم ‘ترومان شو’، أحد برامج تلفزيون الواقع، يعرض في بث حي منذ ست سنوات، ويشاهده العالم كله على مدار الساعة على يوتيوب وفيسبوك وتويتر وسكايب وواتساب وفايبر”. هكذا، على من يريد نقل الصراع أن يخاطب الحواس وليس النظر. في السادس من كانون أول (ديسمبر) 2016، نشرت الصحافية “لايس دوسيت” على تويتر مقطعا صوتيا طوله دقيقة واحدة على خلفية ثابتة من ليل حلب، بعنوان “أصوات القصف في شرق حلب، في ليلة شتوية باردة ومظلمة، طوال الليل”. يبدأ المقطع صامتا ثم فجأة، بعد 15 ثانية، يئز صاروخ في الظلام، يتبعه انفجار، يخبو ببطء إلى هدير. في تلك المدينة التي كان يسكنها ذات يوم مليونا شخص لا نرى إلى عددا قليلا من المصابيح في الشوارع، ولا شيء آخر يُرى في جوف الليل. مع ذلك يظل الصوت شاهدا على العنف.
عبد الحميد هو الآخر يستخدم الأصوات والصمت لإلقاء الضوء على أهوال الحرب. في عمل تطريزي يتناول الاحتجاجات السلمية المبكرة في مدينة درعا في 2011، نرى هيئة رجل متمدد على الأرض، واضعا يديه على أذنيه، بينما يفتح الجيش النار على المحتجين. يذكرنا الوجه الأبيض الخالي من الملامح، وكذلك اليدين، بمانيكانات “ماليفيتش”. ثلاث مساحات مربعة من الألوان الساطعة المصمتة تحيط بهيئة الرجل. الأرضية البسيطة تبرزه وتبرز فعل الانحناء. اليدان تُسكتان الضجيج، في محاولة للدفاع عن النفس، وأيضا في إيماءة عن الرفض والاحتجاج: إيماءة تُسكت العالم، في عمل فني لا يُبرز أي تفاصيل عن المنظر المحيط. في هذه اللوحة الساكنة، الصامتة، والملونة، لا يرى المشاهد دمارًا، لكنه يستطيع سماعه.
وحيث أن الموضوع الأبرز في أعمال عبد الحميد هو العنف، والمعاناة، والحرب، فإن الفتنة الاستطيقية (الجمالية) في اللوحات التطريزية المجردة ذات الألوان الساطعة يمكن أن يراها البعض إشكالية. يقول “أعمل بحذر لأنني لا أريد للوحاتي أن تسفِّه من جلال الأحداث”. مع ذلك يصر على أن هدفه كفنان هو إنتاج أعمال جميلة. “بالجمال، لا أعني ذلك التعريف الأحادي للصورة الجميلة ذات الألوان اللطيفة. بل أقصد التقاط اللحظة، وتجميدها، وتفكيكها. إنني أبحث عن طرق للقبض على الصور، للقبض على الألوان التي أحبها مثل الوردي، والأزرق، والأصفر وإعادة توظيفها. إنها ألواني”. وفقا لهذا التعريف، يمكن لمفهوم الجمال نفسه أن يتخذ أبعادا سياسية. يقول عبد الحميد: “العثور على الجمال في لحظة رعب يقتضي عملا أكبر بكثير من التركيز على الرعب. ونقل الموت من دون الإذعان للون الأسود هو نوع من المقاومة”.